دائمًا وأبدًا لا يرضى المسلمون بغير الثأر لأنفسهم إذا ما أصابتهم هزيمة عارضة، وليس أدل على هذا من معركة "البويب" التي جرت على نهر العراق بعد معركة الجسر في الثاني عشر من رمضان عام 13 هجرية، وفيها تمكن المسلمون من الثأر من الفرس بعد معركة الجسر، وكان يقود المسلمين الصحابي الجليل "المثني بن حارثة". ابن كثير ذكر في كتابه "البداية والنهاية" أن القائد "أبوعبيد الثقفى"، الذي قاد الجيوش المسلمة بالعراق، حقق عدة انتصارات، حتى وقع في غلطة عسكرية كبيرة أثناء معركة الجسر أدت لهزيمة المسلمين لأول مرة من الفرس، وكان يمثل خط الرجوع الوحيد للمسلمين، مما أدى إلى غرق كثير من المسلمين بنهر الفرات، وإصابة الكثير منهم بجراحات خطيرة أثناء محاولاتهم إعادة ربط الجسر المقطوع، ومن هؤلاء المصابين القائد "المثنى بن حارثة"، والذي تولى قيادة المسلمين بعد استشهاد "أبى عبيد الثقفى". كان لوقع هذه الهزيمة الطارئة على المسلمين أثر بالغ في سياسة الخليفة عمر بن الخطاب من حيث إرسال الإمدادات، وتجهيز الجيوش المسلمة، خاصة بعد أن فر الكثير من الجنود من أرض معركة الجسر، وهاموا على وجوههم خجلًا وحزنًا من مصابهم، ولم يبق مع الأسد الجريح "المثنى بن حارثة" سوى ثلاثة آلاف فقط، فسمح الخليفة – ولأول مرة – لمن سبقت ردته بالاشتراك مجاهدًا في سبيل الله، وذلك بعد أن حظر عليهم الاشتراك في الفتوحات، وكان كثير منهم يتحرق شوقًا لذلك تكفيرًا عن خطيئته السابقة. وقام الفاروق أيضًا بتجميع قبيلة "بجيلة" –وكانت متفرقة بين القبائل– وذلك بناءً على طلب سيدهم الصحابى الجليل جرير بن عبد الله البجلى، وصارت تلك القبيلة عماد الجيوش الإسلامية بالعراق، وبذلك استطاع الخليفة 'عمر بن الخطاب' أن يسد الفراغ الناشئ بعد الهزيمة الطارئة بمعركة "الجسر". وذكر كتاب الطبرى "تاريخ الرسل والملوك" أن القائد المثنى بن حارثة من أمهر وأقدر وأخبر القادة المسلمين بالعقلية الفارسية والبيئة العراقية، فقرر نقل مركز القيادة المسلمة من الحيرة إلى منطقة 'البويب' غرب نهر الفرات، حتى لا يصبح صيدًا سهلًا للجيش الفارسى الجرار، وكان اختيار 'البويب' دليلًا على العبقرية الفذة، فهى تقع على أطراف الصحراء العربية، وهو مكان واسع يصلح لحرب الصاعقة التي يجيدها أبناء الجزيرة العربية، وفى نفس الوقت أرسل 'المثنى' إلى قادة الإمدادات الإسلامية القادمة ليتوجهوا إلى منطقة 'البويب' بدلًا من "الحيرة" على وجه السرعة، مما جعل قادة الإمدادات يقررون ترك النساء والذرية خلفهم في منطقة "القادسية"، مع ترك حامية خاصة للدفاع عنهم، وهذا الفعل جعل حركة الإمدادات في منتهى السرعة. وعند وصول الإمدادات إلى أرض 'البويب' طلع الجيش الفارسى العرمرم على ضفة نهر الفرات الشرقية، وكان جيش الفرس يقدر ب150 ألفًا من الفرسان والمشاة في أفضل تسليح، حانقين ضد المسلمين، وفى غاية الكبر والتيه لانتصارهم في الجسر، أما جيش المسلمين فمكون من 12 ألفًا من المقاتلين الأشداء. حاول القائد الفارسى "مهران" استدراج قائد المسلمين "المثنى" لأن يقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه قائد معركة الجسر "أبوعبيد الثقفى"، وعرض عليه أن يعبر المسلمون لنهر 'الفرات'، لتكون أرض المعركة في الضفة الشرقية، وبالتالى يكون المسلمون محاصرين بين الضغط الفارسى أمامهم ومياه النهر في ظهورهم، لكن لأن الخليفة "عمر بن الخطاب" بعد يوم الجسر كان قد أوصى قادة الفتح بقوله "لا يعبر المسلمون بحرًا ولا جسرًا إلا بعد ظفر"، فامتنع "المثنى" من تكرار غلطة "أبى عبيدة"، وعمل بنصيحة أمير المؤمنين، وطلب من الفرس أن يعبروا هم النهر إلى "البويب". ولأن معركة "البويب" كانت في شهر رمضان، طلب القائد "المثنى بن حارثة" من جيش المسلمين أن يفطروا، كون الصوم يضعف قوة المقاتل في المعركة، فنادي في الجند: "إنكم صوام، والصوم مرهقة مضعفة، وإنى أرى من الرأي أن تفطروا، ثم تقووا بالطعام على قتال عدوكم"، فأطاع الجند وأفطروا جميعًا. ولما تهيأ الفرس للهجوم كان لهم زجل وهمهمات، وأصوات عالية مشوبة بالكبر والخيلاء والغطرسة، يؤدونها على صورة الأناشيد والأهازيج العالية، وكان قائدهم 'مهران' يقصد من وراء ذلك إضعاف الروح المعنوية للمسلمين، فلما سمعهم 'المثنى بن حارثة' قال لجنوده "إن الذي تسمعون فشل، فالزموا الصمت، وائتمروا همسًا"،، وكان للمثنى فرس شموس لا يركبها غيره، ولم يكن يركبها إلا عند القتال، فاستوى على ظهرها، رغم جراحة الشديدة التي كان يعانى منها منذ معركة الجسر، ووقف يسوى الصفوف. وفي كتاب "سير إعلام النبلاء" للحافظ أبوعبد الله شمس الدين قال: "كانت تعليمات المثنى ألا يهجم المسلمون إلا بعد 3 تكبيرات، ولكنه ما إن كبر التكبيرة الأولى حتى هجم الفرس بكل قوتهم، وعاجلوا المسلمين في 3 صفوف ضخمة، ومعهم سلاح الفيل، وهم يرفعون أصواتهم بالزجل والأناشيد المجوسية، وكان الالتحام شديدًا للغاية، وتوازنت الكفتان أول الأمر لصبر الفريقين، والذي جعل أمر القتال يطول نسبيًا دون حسم من أيٍ من الطرفين، والمثنى يجول على فرسه الشموس يراقب سير المعركة، ويشد أزر المسلمين في القتال، وأثناء ذلك رأى خللًا في صفوف قبيلة "بنى عجل'"؛ ولأن القتال عند المسلمين كان على أساس قبلى لإثارة الحمية والحماس، فأرسل إليهم رسولًا يقول لهم "إن الأمير يقرأ عليكم السلام ويقول لا تفضحوا المسلمين اليوم"، فاعتدلوا في القتال حتى صاروا من أشد الناس في القتال. واشتد القتال بصورة لم ير المسلمون والفرس مثلها، وكان "مسعود بن حارثة" أخو المثنى هو قائد الفرسان، ومن أشجع المقاتلين، فنادي في الناس –وكأنه شعر بدنو أجله، واشتم رائحة الجنة، ورآها رأى العين– فقال: "إن رأيتمونى قتلت فلا تدعوا ما أنتم فيه فالزموا مصافكم، وأغنوا غناء من يليكم"، وسقط شهيدًا، ولما رأى المثنى استشهاد أخيه، وتراجع المسلمين نادي فيهم بأعلى صوته "يا معشر المسلمين (لا يرعكم) مصرع أخى، فإن مصارع خياركم هكذا". ورأى المثنى أن أمر القتال سيطول جدًا، وأن الفرس يقاتلون بمنتهى الضراوة والشدة، فقرر تغيير خطة القتال، ومحاولة اختصار سير المعركة بقتل قائد جيش الفرس "مهران" لإنهاء القتال، فشن هجوم مركز بقيادته شخصيًا على قلب الجيش الفارسى لزحزحته وإبعاده إلى الخلف، وخلخلة ثباته في القتال، وإحداث فوضى وارتباك في قطاعاته، وقاد مجموعة من أفضل وأمهر فرسان المسلمين، وضغطوا على القلب بمنتهى القوة حتى أزالوه وأجبروه على التراجع للخلف، ثم دب الوهن في نفوس وحدات القطاع الأوسط، فتراجعت هي الأخرى عن مواقعها، وبالتالى أصبحت أجنحة الفرس مكشوفة. وجاء مقتل "مهران" ليقضى على معنويات الفرس رغم المقاومة الشديدة من جانبهم، إلا أن ضغط المسلمين على جوانب الجيش الفارسى دفعهم في النهاية للفرار من أرض المعركة، وكانت هجمات المسلمين الصاعقة تطحن فيهم من كل جانب، حتى عمت الهزيمة الجيش الفارسى، وصار أقصى همهم أن ينجوا بحياتهم من هذه المعركة. وبالفعل وقع الفرس بين كماشة المسلمين الطاحنة، ودب الفزع والذعر في قلوبهم، وأصابهم ما يشبه الهيستيريا، وفقدوا صوابهم بعدما رأوا أنفسهم لا ملجأ لهم ولا مفر من سيوف المسلمين التي حصدتهم تمامًا، وقتل منهم أكثر من مائة ألف، واستمر المسلمون في مطاردة فلول المنهزمين من الفرس يومًا وليلة، حتى أبادوا البقية الباقية، وانتقم المسلمون لمصابهم في يوم الجسر وبنفس الطريقة، ولكن بعد أن قتلوا من الفرس أكثر من 150 ألفًا، انتقامًا لمقتل 4 آلاف شهيد يوم الجسر. وجاء في ذكر "القادسية وفتوح العراق" أن الانتصار الرائع في "البويب" كان من أعظم الفتوحات والانتصارات التي حققها المسلمون في شهر رمضان، وقد فاقوا فيها كل الانتصارات السابقة، ولولا شهرة معركة القادسية لكانت معركة "البويب" هي أشهر وأعظم معارك المسلمين "بالعراق".