هاجمنى الموت وهزمته، وهاجمنى القرش واصطدته وصادفت عروس البحر فعدت بها وللدكتور حامد جوهر اهديتها.. وكافئنى المشير بخمسة جنيهات منحوت هو من صبر وحكمة.. فى ظلمات الليل، حاول التخلص من عذابات الموت غرقا لثلاث ليال، ظل فيها يعافر الموج الهادر، طوقت يداه عنقه.. نفرت عروقه.. تدلى لسانه، وجحظت عيناه فأضحى على شفا حفرة، إلا أن الدنيا تمسكت به، وناداه صوت القدر من أعماق البحر «خليك مع الله».. استغفر ربه وأسلم جسده لخالقه مغشيا عليه، ولما عاد له وعيه استيقظ ليلمح شبحين برداء أبيض فظن أنه الحساب، وما هذان إلا ملكان أرسلهما رب الرحمة. لم يدرك الصياد الشاب ساعتها أنه يرقد بالمستشفى بين يدى طبيبين أحدهما مصرى ، والآخر من بلاد الإنجليز، فقد كانت حالته الصحية صعبة، وحياته مرتهنة بساعات قليلة إن مرت زال الخطر، وإن لم يكن فمصيره مرافقة الموتى.. مبتسما.. ودمعات تنساب على وجهه، راح الصياد العجوز محمود الشافعى يتذكر تلك اللحظة الفارقة فى حياته قائلا: لم تكن المرة الأولى التى أصارع فيها الموت، فأنا رجل ولدت قبل أن تولد تلك المدينة وميناؤها رأس غارب بسنوات عديدة، تاريخ على الأرض أمشى، من مدينة الغريب - السويس - جئت إلى تلك البقعة من الأرض، فيها اصطاد وأحيا.. لاعبنى الموت وداعبنى لمرات خمس، هزمته وحدى فى ثلاث جولات، وفى الرابعة بمساعدة البعض، أما الخامسة فكادت تنهى الأسطورة. فى تلك الليلة الملعونة، كدت ألقى حتفى، لا أمل يلوح فى الأفق، دفعتنى تلك الحالة لمحاولة الخلاص من العذاب بالانتحار خنقا، لكنى تراجعت حين سمعت صوتا من الأعماق يهتف: «خليك مع الله، فتوكلت عليه وفوضت له أمرى، فأنقذتنى عنايته بخلاف شب بين شقيقين حسين ومحمد شعير كانا يمتلكان مركب صيد يريد الأول الصيد ليلا ، أما الثانى فيفضله نهارا، فانصاع الأخير لرأى شقيقه، ولما رأيانى ألقوا إلى بحبل، ولتجمد أطرافى أمسكت به بأسنانى، لأخرج إلى البر محطم الفكين لإصابتهما بتشنج عصيب! وفى جولة أخرى من مبارياتى مع الموت، كان عرض البحر فسيحا أمامى .. بسفينة حفيد نوح اصطحبت كلبى وقطة.. سرحت وسرحت قبل أن يغدر الريح بى، فانقلب بنا المركب الصغير، ملقيا للبحر بثلاثة أرواح، فاضت أولاها بموت القطة، أما الكلب فعقر يدى لينجو بنفسه، ولا لوم، ف«حلاوة الروح» لا تفرق بين المرء والكلب.. فالإنسان نفسه يؤمن بأنه إن جاءك الطوفان فضع ولدك تحت قدميك. نجا الكلب بنفسه، وخلفنى أصارع الموت، فكان سببا فى إنقاذى دون أن يدرى، فقد شاهده بعض ممن كانوا يعرفوننى فهموا ينقذوننى! حين كنت صبيا فى التاسعة من عمرى احترفت الصيد، وكان الإنجليز يحضرون لى الشباك، ويمنحوننى السكر والشاى لإعجابهم باعتمادى على نفسى فى هذه السن المبكرة، وبقيت بمسقط رأسى حتى انتقلت إلى رأس غارب، تاركا أبى وأمى وستة أشقاء، فبنيت «عشة» بسيطة على البحر، فيها أنام الليل وفى الصباح أسعى على رزقى، ثم تعرفت على ذاك الرجل الذى قدم لى نفسه قائلا: اسمى حامد العسكرى، من بر الحجاز أتيت.. وأنت ما اسمك؟.. بلهجة فتية وغرور الشباب صحت: محمود الشافعى، من السويس، أنا لست صغيرا فعمرى يتجاوز الخمس عشرة سنة. من بضع ألواح خشب صنعت، فى أربعينيات القرن الماضى، مركبا صغير.. كانت حصيلة يوم عمل تقارب ثلاثة جوالات من السمك، كنت أبيع نصفها على مقهى قديم يسمى «أبوعين» بثلاثة قروش للكيلوجرام، وما بتبقى كنت أعيده إلي حيث كان.. للبحر! خلال رحلتى مع الصيد صادقت الاسماك وعرفت مختلف صنوفها، تعرفت على الشرس منها.. خبرت طباعها وحركاتها، فأسماك القرش ليست كلها من تلك الفئة التى تهاجم البشر.. إحدى فصائلها لديها ثلاثة أطقم من الأسنان الحادة وتهاجم الصياد بالقفز عليه، وهناك القرش الأسود ذو البطن البيضاء، وهو يأكل حتى الصفيح والخشب، وكانت أسراب منه تسكن سفينة إنجليزية تسمى «أستراليا» غرقت فى البحر منذ عقود، وكذا الحال بالنسبة لسفينة أخرى مصرية اسمها «بكر». وبين حمام غرندل وحمام فرعون، ظهر حوت عظيم قبل خمسين عاما، طوله سبعون مترا، شحط على «البّر ومات» أثناء مهاجمته فريسة، وأيام الملك فاروق شاهدت آخرا شطره «رفاس» إحدى السفن لنصفين، وأخرجه من الماء أهل الزيتية بالسويس للبر. ذات مرة لمحت قرشا فى عرض البحر فألقيت عليه الهلب، وصدته.. وعلى الشاطىء أخرجته فتجمع عمال الميناء ينهشون من لحمه فيشوون ويأكلون، وبعد يومين فتحوا بطنه فوجدوا فى معدته نصف جثة بشرية، فتقيأ من تقيأ وأغمى على بعض منهم، وأشرفوا على الموت لولا العناية الإلهية! ولى رحلة أخرى عدت منها وبصحبتى عروس البحر التي تعرف ببقرة البحر وأيضا، كانت تأكل العشب فانحشرت بعض سمكات «سيجان» فى مجرى التنفس فنفقت، وسحبتها للبر، قبل أن أسلمها للدكتور حامد جوهر قبل وفاته بمعهد الأحياء المائية، وتصادف وقتها وجود المشير عبدالحكيم عامر الذى كافأنى بخمسة جنيهات، وكانت مبلغا محترما وقتئذ. فى حصصياتى لم أغفل الدور الوطنى، فكنت أساعد في توصيل المؤن إلي الفدائيين بفنار الأشراف بعد نكسة76، وكذا فى تموين المراكب من ميناء رأس غارب، وكنت أساعد فى نقل الجنود. إلى هنا أدرك الصياد العجوز الصباح، لكنه لم يسكت عن الكلام المباح، فعمره الذى تجاوز الثمانين بسنوات ست، مليء بما يستحق أن يروى..