ليس هناك مؤشر جاد واحد على أن الذكرى الأولى لثورة يناير المجيدة هى بالفعل على مبعدة خمسة أسابيع فقط لا غير! فليس لدينا حتى الآن أية أمارة على أية استعدادات لاحتفال يليق بقدْر هذا اليوم المجيد فى تاريخ مصر والإقليم، والذى لم تتضح تجلياته الكبيرة بعد، حتى بعد أن طال أثره أرجاء المعمورة وأصبح مُلْهِما للكثيرين فى كل الثقافات! فكأننا لا نقترب من مناسبة عظيمة، وكأنما يجوز أن تَعْبُر الذكرى كيوم من الأيام المتكررة، وكأنه ليس هنالك فى هذا البلد جهة ما أو شخص ما يُعتبر مسؤولا عن الإعداد لهذا اليوم، وكأنه لن يُلام أحد على هذا التجاهل، وكأن هناك نية شريرة مُضمَرة على أن يظل يوم 25 يناير المقبل كسابق عهده عيدا للشرطة يُلقى فيه خليفة حبيب العادلى كلمة يُشيد فيها بخليفة مبارك، وتُوزع النياشين على خلفاء رجال الشرطة الذين تفوقوا فى تزوير إرادة الشعب وسرقوا المال العام واعتدوا على كرامة الشعب وتستروا على الفساد والمفسدين!! كان من الواجب، فى الذكرى الأولى للثورة، أن يُزاح الستار عن نُصُب تذكارى مهيب يضم أسماء جميع الشهداء بدءا من 25 يناير وحتى أحداث شارع محمد محمود، وكان من الواجب أن تُكَرّم أمهات الشهداء وآباؤهم وزوجاتهم وأبناؤهم، وأن تُطلق أسماؤهم على الشوارع والميادين والمنشآت العامة، وأن تُصرف التعويضات اللائقة لذويهم بشكل كريم. وكان من الواجب رد الاعتبار الأدبى والمادى لجرحى الثورة وإعلان خطة واضحة لكيفية بسط الرعاية الصحية والاجتماعية لهم فى المستقبل. وكان من الواجب الإفراج قبل الاحتفال عن آلاف المدنيين المحبوسين فى القضاء العسكرى، وإخضاع من تُوجَّه له تهمة حقيقية إلى قاضيه الطبيعى، ولا يُحبس احتياطيا إلا من يُخشى منه خطر كأن يكرر الجريمة أو يعبث بالأدلة. فمن غير المقبول إطلاقا أن يهلّ عيد الثورة الأول وعدد من الثوار داخل السجون! وكان من الواجب أن يفصح المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعبارات لا لبس فيها عن موقفه الملتبس الذى يُعَبَّر عنه بكلام وعكسه! مرة بأداء التحية العسكرية لروح الشهداء ووصفهم بالأبرار، ومرة أخرى يجيئ اتهامهم بالتمويل من الخارج والتدرب على أعمال التخريب فى برامج تشرف عليها دول الأعداء. وبالمثل، فإن المشير طنطاوى مدين بتفسير الارتباك الشديد الذى تسببت فيه تصريحاته المتناقضة: مرة عندما قال إنه وجميع أعضاء المجلس رفضوا إطلاق النار على الثوار، ومرة أخرى قال فيها إنه لم يُصدر لهم أحد أمرا بإطلاق النار! وكان من الواجب الدعوة لمؤتمر علمى ضخم يشارك فيه من داخل مصر وخارجها أكاديميون وباحثون وسياسيون وعلماء سلوك واجتماع وتاريخ ونشطاء فى حقوق الإنسان، وكلهم على أعلى درجات العلم والنزاهة، لتقديم دراسات وعقد ندوات وورش عمل تُناقَش فيها وثائق الثورة وطبيعتها وأسبابها وأحداثها وتطوراتها ونتائجها محليا وإقليميا وعالميا وإلهاماتها المختلفة، وأيضا إخفاقات الثورة وارتداداتها والمتسببون فى تعويقها! أهمية الاحتفال بهذا اليوم تتجاوز المعنى الرمزى، الذى هو مهم فى حد ذاته، إلى أنها تحدد الآراء السياسية إزاء الجوهر، وتفصح عن الموقف الحقيقى العملى من الحدث، وتوضح حقيقة موقف كل فرد أو حزب أو قوة أو تيار، من مدى اهتمامه بالاحتفال، أو من تجاهله والتغاضى عنه أو تعمد تسطيحه. الموقف من هذا الاحتفال يفرز الثورة الحقيقية وأنصارها من الثورة المضادة وفلول النظام المخلوع. ويمكن تلخيص أحد الجوانب بسؤال بسيط: هل سيكون 25 يناير المقبل عيدا للثورة أم عيدا للشرطة؟ وسوف تحدد الإجابة أشياء كثيرة. فلقد انتفضت طليعة الشباب مطالبة بإسقاط النظام، وتحدد عمدا لإعلان هذا الموقف اليوم المخصص للاحتفال بالشرطة، وقد أضفى الشعب الشرعية على المطلب وتوقيته بانضمامه للانتفاضة ودفعه بها إلى بداية ثورة حقيقية، وكانت المشاركة الشعبية تعنى موافقة الجماهير على إسقاط كل أجهزة وأدوات النظام وعلى رأسها الشرطة التى وضعت نفسها فى محل عدو الشعب! فلقد تكونت للشرطة عبر حكم مبارك عقيدة مهنية تمثلت فى السعى بكل الطاقة لحماية نظام الاستبداد والفساد بكل السبل حتى التى تتعارض مع القانون، وحتى بقهر الشعب وإذلاله وتزوير إرادته فى الانتخابات وتلفيق القضايا ضد الشرفاء وتعطيل مصالح الناس حتى تمر مواكب أساطين الحكم وأنجالهم ونسائهم..الخ. وأُضيف إلى ذلك التلقين الممنهج لكل أفراد الشرطة منذ بدايتهم أنهم من طينة فوق الشعب، ووصل الأمر أن قال بعضهم أمام العدسات أنهم سادة الشعب!! ولا يمكن المغالطة بأن الأغلبية من الشرطة شرفاء، فلقد عجز هؤلاء الشرفاء عن وقف التدهور فى الأداء، بما يثبت أن آلية الفساد فى الجهاز كانت أقوى من رفضهم، وبالتالى، فلا يليق بجهاز كهذا أن يُحتفى به إلا من نظام مبارك أو من نظام شبيه به، وانظر إلى تقاعس هذا الجهاز حتى الآن عن القيام بواجباته التى يتقاضى عنها أجرا، وتأمل معنى احتضانهم لمن يسمون أنفسهم “أبناء مبارك” بما يعنى انتماءهم معا لذات المنابع التى ثار ضدها الشعب، وتابع روح العصبية القبلية التى يساند بها رجاله بعضهم بعضا ضد الناس حتى الآن، وهو ما تجلى فى العنف المبالغ فيه ضد المعتصمين العزل من جرحى يناير وما تصاعد عنه فى أحداث التحرير وشارع محمد محمود، ثم إصرارهم على التستر على الضابط المتهم بقنص العيون، وتهديدهم بالاستقالة إذا جرى تسليمه للعدالة..الخ الخ لقد أثبت هذا الجيل من الشرطة أنهم على النقيض من أجدادهم الذين تصدوا لقوات الاحتلال الانجليزى فى 25 يناير عام 1952، وأنهم لا يستحقون أن يحتفى الشعب بهم، وأنه ينبغى إلغاء هذا الاحتفال أسوة بإلغاء الاحتفال بعيد ميلاد مبارك وغيره من أيام هذا العهد البائد! أما الحدث البطولى القديم فى مواجهة الاحتلال الانجليزى فقد دخل التاريخ مثله مثل صفحات ناصعة قبله وبعده تتناقلها الأجيال ويدرسها التلاميذ فى المدارس، ولم يعد من اللائق أن يستفيد من سمعتها من لا يعرف قيمتها ويتبنى ما يناقضها من مبادئ. الواجب الآن هو العمل، بخطة علمية متدرجة سريعة يثشارك الجميع فى وضعها، على تصفية هذا الجهاز وإحلال غيره مكانه، وتكون أول مهام الإدارة الجديدة التعامل مع الفاسدين فى هذا الجهاز، ثم نفكر فى المستقبل أن يُخَصَّص للشرطة الجديدة يوم عندما يثبتون جدارتهم. وكان هذا فحوى واحد من أهم مطالب الثورة. ولعله من المفيد أن يشير المجلس الاستشارى على المجلس العسكرى بضرورة لحاق ما فات والعمل سريعا على التجهيز لاحتفالات العيد الأول للثورة بما يليق بها.