التظاهر والاعتصام والمجاهرة بالرأى هى حقوق مشروعة تتفق مع الشرائع وتكفلها القوانين لكل البشر. لكن حكوماتنا دأبت على معاداة هذه الحقوق التى اضطرت مرغمة إلى التوقيع عليها، لهذا تسعى جاهدة لتفريغها من مضمونها بالتصدى العنيف لكل من يرفع صوته مطالبا بحقوقه. وللحكومة الميمونة وسائل عديدة لفض المظاهرات والاعتصامات، يعرفها من شهد الوقائع الدموية فى الموجة الأولى من الثورة فى يناير 2011، كذلك من شهد تكملة المقتلة فى الموجة الثانية من الثورة فى نوفمبر من نفس العام. وسائل التصدى للمتظاهرين السلميين كانت هى الرصاص الحى والرصاص المطاطى والخرطوش والغازات. بعد المشاهد الرهيبة التى رآها العالم كله على الهواء للقتل وجر الجثث وسحلها على الأسفلت ثم إلقائها فى الزبالة وضرب الفتيات وشدهن من شعورهن وإطلاق النار على العيون وتشجيع زملاء الباشا له بالقول: جدع يا باشا.. بعد هذا كله اضطر النظام إلى إقالة الوزارة وتغيير وزير الداخلية من أجل تهدئة الخواطر ولملمة أشلاء الشهداء ورأب ما تصدع من السِّلم العام بفعل مشاهد الرعب التى أثارت فزع المصريين وألقت الهلع فى قلوبهم. لكن تبقت مشكلة.. وهى الشباب الذى ظل معتصما رافضا أن يغادر قبل أن تتحقق مطالب الثورة. جرب القوم الكلام بالحسنى بعدما أعلن وزير الداخلية أن الغاز والرصاص لن يستخدم فى فض الاعتصام وأن العنف بكل أشكاله، حتى اللفظى منه، لن يكون الوسيلة التى يتعامل بها مع شباب مصر.. وقد ضرب الدكتور الجنزورى مثلا طيبا فى رفض العنف، وهو الذى أتى بعد مقتلة سالت فيها الدماء أنهارا عندما أخذ يتنقل ويعقد اجتماعات مجلسه فى أماكن مختلفة، نظرا لأن مجلس الوزراء ظل مغلقا بفعل المعتصمين. سارت الأمور طيلة الأيام الماضية على هذا النحو.. وفجأة نشهد أمس، حادثة مروعة هى الأولى من نوعها فى العالم كله، رأينا فيها أسلوبا جديدا لفض الاعتصام وهو وضع السم الهارى فى الطعام لتفريق المعتصمين! تواترت الأنباء عن عربات الإسعاف التى هرعت لنقل العشرات من الشباب المعتصمين أمام مجلس الوزراء إلى مراكز السموم والمستشفيات المحيطة بعد تعرضهم للتسمم الشديد على أثر وجبة حواوشى وأسماك وزعها عليهم «فاعل خير» أقر الشهود بأنهم رأوه يوزع الطعام الملفوف بشكل فاخر ثم ينطلق بسيارته ويختفى. لا أستطيع أن أتهم طرفا بعينه بارتكاب جريمة بشعة من هذا النوع، لكن خبراء الجريمة اعتادوا عند التحقيق فى الجرائم أن يقولوا: فتش عن المستفيد من الجريمة، وربما كان المستفيد معروفا وواضحا تماما، كما أنه من المحتمل أن المستفيد هو شخص أو كيان خفى غير معروف فى الوقت الحالى، لكن فى كل الأحوال فإن مهمة الأجهزة الأمنية والسياسية فى هذا البلد أن لا تهدأ حتى يتم القبض على الفاعل واستجوابه لمعرفة الجهة التى تقف خلفه والتى طبخت له الحواوشى ليقتل به أبناء مصر الذين نجوا من القتل بالرصاص والغاز ليواجهوا أسلوبا جديدا فى فض الاعتصام. فى حدود علمى لم يلجأ أحد من قبل إلى تسميم المتظاهرين بالحواوشى والسمك، الأمر الذى يدفع بالواقعة إلى حدود الخيال ويستدعى وضعها بكتب الغرائب والعجائب، لأن إسرائيل على همجيتها لم تستخدم أبدا الحواوشى المسموم فى تفريق المظاهرات، والقذافى على جنونه وخبله لم يفكر فى تسميم الطعام للثوار. فمن هو يا ترى ذلك الإرهابى صاحب الفكرة المبتكرة الرهيبة فى فض الاعتصام بهذه الوحشية؟ إن الأنباء الواردة، حتى كتابة هذه السطور، قد حملت وفاة أحد المصابين من التسمم، والعدد مرشح للزيادة مع مرور الوقت وسريان السم فى العروق والأوردة. لقد تكسرت النِّصال على النِّصال ولم يبق فى جسد الثورة شبر إلا وبه ضربة سيف أو طعنة رمح أو رصاصة مستقرة فى الحشا أو رئة قد تشبعت بالسلاح الكيماوى أو معدة متهلهلة بفعل السم الهارى.. فلا نامت أعين الجبناء.