احتار أمير المؤمنين عمر فى بيت المال، كيف يتصرف فيه. استشار عليًّا بن أبى طالب فنصح، حسب ما فهم من سنة الفَىْء (الغنائم)، بأن توزع أمواله على المسلمين بحيث لا يحول الحول (ينقضى العام) إلا وبيت المال خال ليس فيه دينار ولا درهم. واستشار عثمان بن عفان فقال، من رؤيته كمستثمر ناجح، «أرى مالا كثيرا، وإذا لم يضبط خشيت أن ينتشر الأمر». وأخذ عمر بنصيحته، استخدم المال فى القيام على أمور الدولة، والتكفل بالمحتاجين، وأبقى على بعض منه فى بيت المال. فى عام الرَّمادة، وجد عمر فى بيت مال المسلمين بعض العون. شكرا لعثمان. ديننا وصل إلينا على أيدى الحفّاظ فقط. وذلك للأسف الشديد. فهؤلاء نظرتهم سطحية وحرفية. حين يتحدثون عن موقف كهذا ينشغلون بالخلاف الفقهى. فمقولة عثمان بأن المال مال الله، وأن الخليفة يتصرف فيه، كانت إحدى المآخذ التى أخذها عليه من عارضوه ثم قتلوه. هؤلاء قالوا إن «المال مال المسلمين»، انطلاقا من فهم ضيق، فى ظرف مختلف، لتصرفات النبى. وهنا تظهر الفجوة الثقافية بين كبار أصحاب النبى أنفسهم. فابن أُميَّة، عثمان، كان تاجرا، مجتهدا، كثير التِّرحال، مطلعا على نظم الحكم الحضرية. أما ابن هاشم، علىٌّ، فكان تقيا وَرِعا، شجاعا مِقداما مضحيا، زاهدا، لم يكد يخرج من حدود مكة والمدينة إلا لاحقا، لملاحقة الخارجين عليه. تكررت مقولة «المال مال الله» على لسان معاوية. وأثارت أيضا بلبلة. لكن معاوية، السياسى المحنك، رد على منتقديه بأن المسلم وما يملك لله، فمال المسلمين هو مال الله. لقد فهم عقلية الحفاظ، فهمَ اهتمامهم بظاهر الأشياء وحرفية الكلمات وقصورهم عن بواطنها، فأرضاهم. ومن الحجج ما يقصر فيه الكلام النظرى عن التوضيح. وتلك فلسفة نستخدم لها كلمة معرَّبة ولا معنى لها فى عقولنا ولغتنا، «إمبريقية»، لكن معناها ببساطة تجربة الأشياء بلا موقف مسبق منها، ثم الحكم عليها. فلسفة ظهرت مع البريطانيين، الأسكتلندى ديفيد هيوم، والإنجليزيين جون لوك وإسحق نيوتن، وغيرهم. وبأمثال هؤلاء بدأ عصر ازدهار الإمبراطورية البريطانية. العظيم طه حسين قرأ فى نفس الحادثة بين عمر وعثمان وعلىّ قراءة لمّاحة مَفادها أن أكابر الصحابة أنفسهم لم يرِثوا عن النبى تصورا للدولة الإسلامية. بل كانوا يجتهدون وفقا لثقافتهم الشخصية واختلاف تجاربهم، بما يظنون أنه للصالح العام. ولو نظرت إلى التاريخ الإسلامى الأول بسعة صدر، وبلا أحكام مسبقة، ستجد هذا واضحا. بعد وفاة النبى يجتمع الأنصار لاختيار حاكم من بينهم، لكن المهاجرين يسارعون إلى السقيفة ويقنعونهم بأن «منا الأمراء ومنكم الوزراء». لو كان هناك حكم واضح لاتبعوه. ثم، أبو بكر يُختار بطريقة، وعمر بطريقة أخرى، ومَن بعد عمر بطريقة ثالثة. كلها اجتهادات. هل تدرى ماذا شغل الحفاظ من هذا؟ انشغلوا بحتمية أن يكون الخليفة قرشيا، اعتمادا على مقولة «منا الأمراء ومنكم الوزراء». لم يروا أن السبق للإسلام فى هذا العصر انحسر بين المهاجرين القرشيين، والأنصار اليثربيين. وأن هذا كان الداعى إلى مقولة كتلك. لا شىء آخر. وحين قال عمر إنه لو كان أبو عبيدة بن الجراح حيا لاستخلفته، ولو كان سالم مولى أبى حذيفة حيا لاستخلفته (والثانى، كما تعلمين، ليس قرشيا، بل من الرقيق الفارسى)، انشغل الحفاظ بالخلاف حول الولاية -أى التبنى- هل هى نسب أم لا. هل يصير سالم بولايته لأبى حذيفة قرشيا أم لا؟ وذلك بدل أن يستخدم الحفاظ مقولة كمقولة العظيم عمر تلك لفهم سماحة الإسلام وتقدميته وسعة صدره ومساواته بين الناس. ما من دين إلا وكان فى زمنه ثورة ثقافية، تقدمية، تنقل البشرية خطوات إلى الأمام. إنما الأمر يؤول إلى من جاؤوا من بعد. صحابة النبى فهموا أن الدين الذى أكمله قبل وفاته لم يكن فيه نظام متكامل لدولة، بل تركها الرسول لمن يأتى بعده... «أنتم أعلم بأمور دنياكم» فاجتهدوا فى اختيار الحاكم، وفى اختيار النظام المالى. أما المتأخرون فسقطوا فريسة الأحكام المسبقة والجدل العقائدى. ومنهم من لا يزال يدَّعى أن الله وضع قواعد تفصيلية للحكم، علينا اتباعها. لقد قال الفيلسوف الألمانى إيمانويل كانط عن التجريبى (الإمبريقى) ديفيد هيوم: «لقد أنقذنى هيوم من السُبات العقائدى (الدوجماتى)». فهل ثمة من ينقذنا نحن؟ أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم.