هل ينبغى لمجلس الشعب وحده انتخاب الجمعية التأسيسية؟ محتار، ولا أدرى إلى أى جانب أنحاز. فلكلا الجانبين وجهة نظر معتبرة. من يعتقدون أن هذا هو الطريق الأمثل يقولون إن مجلس الشعب هو المؤسسة الوحيدة المنتخبة حاليا، وإن لأعضائه، من ثم، أن يختاروا الشخصيات التى تكتب الدستور. ويقولون إن هذا ما أوحت به التعديلات الدستورية التى وافق الشعب عليها، والتى أيدها المجلس العسكرى واعتبرها دليل شرعيته (رغم أنه كان يفترض أن يبقى على الحياد). وهى وجهة نظر معقولة، سواء اتفقت عليها أم اختلفت. أما المعارضون فيقولون إن كتابة الدستور عملية تقنية، ومهنية، لا تخضع لآليات اختيار أعضاء مجلس الشعب. وكما أن الطب والهندسة يداران من قبل ذوى الخبرة، لا من قبل الأكثر شعبية، فهكذا الأمر مع الدستور، يكتبه ذوو الخبرة وليس ذوى الشعبية. أضف إلى ذلك أن مجلس الشعب هيئة منبثقة عن الدستور، يحدد الدستور شكلها وقواعدها، لا العكس. فيجب أن يكتب الدستور على يد مؤسسة مستقلة، لا تستفيد منه فى قليل ولا كثير، ولا تتضارب مصالحها مع مصالحه. وبعد كتابته تخضع لقواعده مؤسسات الدولة الأخرى، بما فيها البرلمان نفسه. كما أن إيكال مهمة اختيار كتاب الدستور إلى أعضاء البرلمان يضخم نفوذهم، ويجعل الدستور عرضة للمساومات السياسية. وفوق ذلك، سينتج دستورا يحافظ على مصالح أعضاء البرلمان بشكله الحالى، فمثلا يضخم دور الحكومة مقابل الرئيس (بغض النظر عن موقفك من الموضوع) لكى تحصل الأغلبية لنفسها على تفويض أكبر مما منح لها. وأغلب الظن أن الدستور الجديد سيعيد إنتاج نفس البرلمان، ونفس قواعد الانتخاب، فلا يزيد نسبة العمال والفلاحين ولا ينقصها، لأن نصف المجلس أتى عبرهما، ومن مصلحة هذا النصف أن يحفظ موقعه. ونفس الأمر لو اشترك مجلس الشورى فى اختيار لجنة صياغة الدستور، فأغلب الظن أنه سيبقى على مجلس الشورى فى حدود نفس الصلاحيات، طبقا لأصحاب هذا الرأى، البرلمان هيئة مؤقتة، والدستور، فى مجمله، دائم. فكيف يصح للمؤقت أن يصوغ الدائم؟ أغرب من هذين الموقفين، وأكثر مدعاة إلى الحيرة، موقف المجلس العسكرى. فالتصريحات التى (لا) تعبر عنه تقول إن البرلمان لا يمثل كل طوائف الشعب المصرى. ومن ثم فلا بد من دور لمؤسسات أخرى. وهذا صحيح. لكن الصحيح أيضا أن التفويض الذى حصلت عليه الأغلبية فى البرلمان تفويض كبير، يكسبها شرعية إضافية. وهى أغلبية ناتجة عن خارطة الطريق التى ارتضاها المجلس، عكس نصيحة ذوى الخبرة. ونحن لا نستطيع أن نخضع مستقبل مصر لهوى المجلس العسكرى. فنصدقه حين يقول إن خارطة الطريق التى رسمها هى الأنسب. ونصدقه أيضا حين يريد أن يتنصل منها. كما أن فتح الباب لمساومات المؤسسة العسكرية سيفضى بنا إلى صفقة أخرى، سيسلمون فيها الأمر للأغلبية لو وافقت على حماية مصالح المؤسسة. من التجربة هذا أمر وارد جدا. عندها سينتهى بنا الحال إلى أن تكتب الأغلبية الدستور، وأن تحظى المؤسسة العسكرية بميزات. ومن الأفضل لنا إذن أن نسد الباب من الآن ونترك الأمر للأغلبية. أضف إلى ذلك أننا لا ندرى كيف يفكر المجلس العسكرى فى موضوع لجنة كتابة الدستور؟ لم تكن البداية مبشرة. فالبادى أنه يريد دورا للمجلس الاستشارى فى اختيار أعضاء اللجنة، وهذا يجب أن يكون مرفوضا مرفوضا. هذا المجلس فاقد للشرعية. لا هو منتخب، ولا حتى أعضاؤه مختارون طبقا لمعايير كفاءة محددة. ولو خيرنا بينه وبين مجلس الشعب فذاك اختيار بين عضة الثعبان والتسمم. المشكلة، لكى تزداد الحيرة، أننا كقوى مواطنية (مدنية) خسرنا كل معاركنا لصالح أصحاب أختام الوطنية والإيمان، وأن كتابة الدستور هى المعركة الأخيرة. والمشكلة الثانية أن القوى المواطنية فقدت أى شرعية للادعاء بأن خياراتها هى ما يريده المصريون. هذه هى الحقيقة التى لا يجب أن نغفل عنها بعد استفتاء الدستور وانتخابات مجلس الشعب. المبررات لا تغير من هذه الحقيقة شيئا. وحجتنا الأخيرة الآن أننا، كأقلية معتبرة، من حقنا أن ندافع عن المبادئ التى تحفظ لنا حياة كريمة، تحفظ لنا حقوقنا السياسية ولا تصادر حق الانتخاب، ولا يفرض علينا فيها نمط حياة وملبس ومشرب ومأكل لا تتناسب مع خياراتنا، ولا تمنح بمقتضاها مؤسسة حقوقا مطلقة تحت أى ذريعة. وأن نستعد للدفاع المستميت عن حقوقنا الأساسية كبشر، بكل الوسائل. هكذا يجب أن تكون رسالتنا لصناع الطبخة، سواء من المتحدثين باسم السماء أو المتحدثين باسم الأرض. افعلوا ما شئتم، وتحملوا مسؤوليته، ولكن حقوقنا الأساسية لا مساومة عليها. هل هذا مخرج جيد من الحيرة، أم استسلام وعجز، أم استباق للأمور؟ لا أعرف. الله لا يسامح اللى علَّنا العكة دى.