عدنا إلى مؤسسات الغموض. نرى قفازاتها ولا نرى ملامحها. من يخطط لكل ما يحدث فى مصر؟من يحكم ويدير؟ تبدو من بعيد علامات على وجود مركز سرى يحاول إعادة لملمة أشلاء دولة 23 يوليو، وإعادتها فى طبعة جديدة. دولة يتحكم فيها الجنرالات، وترتدى كل المسارات المدنية الأقنعة لتدخل تحت سيطرة المسار العسكرى. هل هذا صحيح؟ هل هذه مخاوف أو هواجس؟ ربما.. وربما أيضا من طول معاشرتنا لمؤامرات القصور والحجرات المغلقة، ودولة الأجهزة السرية، نتصور أن هذا قدر السياسة فى مصر. هل يمكن أن يسقط النظام وتبقى أجهزته السرية؟ هل تسمح الأجهزة السرية بسقوط النظام، خصوصا أن السقوط يتم بثورة شعبية، لا قوة لديها سوى الأيادى العارية لشباب كسروا حاجز الخوف وهانت لديهم حياة بلا حرية ولا كرامة... لم يكن لديهم خطة سياسية، لكنها حرب الدفاع عن الوجود الحر فى بلد لا يقهر فيه الفرد ولا تهان كرامته تحت بيادات السلطة وإن كانت حنونة. الاستبداد كان حنونا فى طبعة مبارك... ناعما مثل حرباء متلونة، ورقيقا مثل ذئب عجوز، وشرسا مثل وحش لم يعد باقيا من شراسته سوى الأنياب. بالنسبة لهذه الأجهزة السرية الثورة ليست ثورة بمعناها الذى يتيح تغيير نظام الحكم وإعادة بناء جمهورية جديدة، إنها انتفاضة أو مظاهرة تعبر عن غضب شعبى على مبارك. تفسير الغضب بالنسبة لهذه الأجهزة هو الحاشية الجديدة التى أحاط بها مبارك نفسه، أى العائلة ورجال الأعمال. ولهذا فإن هذه الأجهزة السرية ألقت بالحاشية ورئيسها خلف القضبان، وكأنهم أسرى لا تريد استكمال محاكمتهم ولا تقدر على الإفراج عنهم. إنهم أكباش فداء، للجموع الغاضبة، ومثلهم مثل يحيى الجمل وعلى السلمى وعصام شرف، إلى أن وصلنا إلى الجنزورى وحكومته كلها. والعرض الكبير الآن هو المجلس الاستشارى، أو القفاز الذى يرتديه المجلس العسكرى ليبنى الجمهورية الجديدة بمنطق يستعيد بها دولة 23 يوليو. جمهورية التسلط المركزية، التى تضع شرعية الحكم فى أيدى الأجهزة السرية، تختار هى الرئيس كما فعلت مع عبد الناصر وحتى مبارك، وتمنح لاختيارها طقوس الشرعية الشكلية، فالانتخابات لا معنى لها، ولا مؤسسات الدولة، كلها أدوات فى أيدى الأجهزة السرية، التى تحتفظ بسر تشغيل الدولة، وقرصها الفعال. هل هذا ما يحدث أم أنها كوابيس المرحلة الانتقالية المعقدة؟ الطرق كلها تؤدى إلى إعادة دولة 23 يوليو، فى محاولة لتفكيك قوة المجتمع من جديد، وباتفاقات وصفقات سرية ومعلنة بين القوى السياسية والمجلس العسكرى الجزء الظاهر من الأجهزة السرية. الإخوان شاركوا فى خديعة الاستفتاء على إعلان دستورى حمال أوجه، وقادر على ضرب الجميع ليبراليين وإسلاميين.. ثوار وجيش الدفاع عن الدولة القديمة. الجميع مهدد بما يسميه شطار المجلس «شرعية» الإعلان الدستورى. وكل المسارات المدنية يتم تدميرها أو خدشها، من الانتخابات التى تمت بطريقة تخرج فيها مشوهة بجهاز بيروقراطى عقيم، وبغض الطرف عن الانتهاكات، ليصل النواب بشرعية منقوصة، ويفقد الشعب الإيمان بأن تكون الانتخابات مسار التغيير، أو تداول السلطة. تتفكك القوة السياسية على أرضية الاستقطاب بين الإسلاميين والليبراليين، وهو استقطاب وهمى، لأنهما فى الحقيقة يحملان نفس المشروع السياسى والاقتصادى، كلاهما يتنافس على المنطقة لا عاطفية ودغدغة المشاعر بلعبة الهوية والحصول على البركة. لا فرق بين الليبرالى والإسلامى فى النظرة إلى المشروع الاقتصادى والاجتماعى، كلاهما لن يمس نظام مبارك، وسيحافظ على دوران ماكينة الاقتصاد لتصب فى صالح شريحة صغيرة مع زيادة مساحة الإحسان للفقراء. اللعب على هذا الاستقطاب سيؤدى فى النهاية إلى صناعة رعب من زحف الإسلاميين نحو البرلمان، واقتراب شريحة من الليبراليين مع الإسلاميين من لعب دور قفازات المجلس العسكرى. متاهة؟ نعم متاهة.. هذا ما نشعر به بعد 10 شهور من ثورة لم تزل قوتها الأساسية تحمل إصرارا عجيبا على خوض المعارك إلى النهاية والدفاع عن الحرية وعن بناء نظام جديد بشرعية 25 يناير، أى الثورة التى استعاد بها المجتمع المبادرة وفرض نفسه كشريك فى السلطة. .. وهنا يقترب الصدام. لا أقصد الصدام بين الإخوان والمجلس العسكرى، فهذا صدام ينتهى بالتفوض أو القهر. لكنه صدام بين الثورة والمدافعين عن الجمهورية القديمة.