فى انتخابات برلمانية سابقة أصدرت جماعة اسمها «التوقف والتبين» كتيبا بعنوان «أإله مع الله؟»، وتحته عنوان فرعى «القول السديد فى بيان أن مجلس الشعب مناف للتوحيد». الكتيب تبنته أيضا «الجماعة الإسلامية»، التى كانت وقتها أيضا تعتبر البرلمان كيانا منافيا لأصل الإسلام الأول (التوحيد) من بين جماعات الإسلام السياسى كان الإخوان وحدهم من حسم المعركة لصالح المشاركة. لا أقول هذا لكى آتى من الماضى بما يثبت أن الإسلامجيين يظهرون خلاف ما يبطنون تجاه الديمقراطية، وأنهم يتحينون الفرصة لكى ينقضّوا عليها. بالعكس. أقول هذا لكى أشير إلى التغير الرهيب الذى حدث فى فكر تلك الجماعات حين شمّت فرصة المشاركة السياسية. وهذا التغير الذى وصفته بالرهيب، هو ما نسميه فى اللغة «ثورة». إن مجرد إجبار من يكفرون الديمقراطية على الاحتكام إليها «ثورة» فى حد ذاته. لن تشعر بحجم وعمق هذه «الثورة» إن كنت لم تختلط بالجماعات الإسلامية ولم تقرأ التاريخ الإسلامى السياسى. «الحاكمية لله» هى أصل الأصول لدى جماعات الإسلام السياسى على مدار التاريخ. قتلة عثمان رفعوا شعار «إن الحكم إلا لله» لكى ينزعوا شرعية السلطة الأرضية حتى لو كانت فى يد أحد المبشرين بالجنة. وقتلة على رفعوا شعار «إن الحكم إلا لله» لكى يرفضوا التحكيم بينه وبين معاوية، لأن من سيديرون التحكيم «بشر». الآن، الجماعات السلفية توافق على الاحتكام إلى صندوق الانتخاب، يوافقون على أن بيد الشعب -البشر- أن يختارهم فى موقع السلطة أو أن يقول لهم مع السلامة لا نريدكم. لاحظ: الشعب وليس الأمر الربانى الذى يدّعون الإحاطة به علما. لن تشعر بحجم هذه «الثورة» إن لم تنظر إلى تصريحات عبد المنعم الشحات من زاوية أخرى. هذا رجل مثله كمن قال إن «مضاجعة النساء زنى» ثم ظهر فى فيلم بورنو. لا، لا. طبعا هذا لم يحدث، فما حدث أشد. هذا رجل قال إن «ممارسة الديمقراطية كفر»، وليس كبيرة كالزنى، ثم مارسها جهارا نهارا على شاشات التليفزيون. لقد وصم نفسه بالديمقراطية إلى يوم الدين -تلك هزيمة لدعواه السابقة. سينهزم «أكثر» فى المعركة الأخلاقية لو تبجح وقال فى المستقبل إنه يريد أن يتخلص من الديمقراطية. والمعركة الأخلاقية مهمة جدا لأنه لا يملك غيرها. فقد جرب غيره حمل السلاح ورأى النتيجة بعينيه. لو أعاد كلامه فى درس فى الجامع سيتجرأ عليه شاب حصيف شجاع ويذكره بأنه شارك فى الديمقراطية. هكذا تنتصر الأفكار وتنهزم، وتصنع القداسات من الرجال وتنهزم. هذا جانب من جوانب الثورة. ليس كل شىء، ولكنه مهم جدا «سأحتفى بجانب آخر هو وعى الناخب المصرى فى مقال غد». ولكى تدرك أهميته استعرض فى مخيلتك، ليس فقط الثقل التاريخى الذى أشرت إليه أعلاه، بل مسار الأحداث الداخلية والعالمية منذ التسعينيات إلى الآن. ستجد أن الإسلام السياسى المتطرف صنع معظمها على كل المستويات، ونجح فى إقناع أقلية معتبرة من المسلمين حتى فى الديمقراطيات الراسخة بأن السبيل الوحيد للتغيير هو حمل السلاح لتحطيم الطواغيت وإقرار حكم الله فى الأرض، وفى إقناعهم بأن الديمقراطية نفسها طاغوت آخر ينافى حكم الله. لم يكن هذا مؤثرا فى السياسة العالمية فقط، إنما الداخلية أيضا، فى معدل التطور الاجتماعى والفكرى والثقافى والسياسى فى مجتمعاتنا. الآن غيرت الرياح اتجاهها، والمحركات رجعت للعمل. من حقك أن ترى بر الأمان بعيدا، فقد بدأنا المسير للتوّ، ولا يزال أمام عيوننا كل المسافة التى تركناها سابقا خلف ظهورنا. لكن العاقل يدرك أن تلك هى الخطوة الأولى، ويستبشر. لكن العاقل يعلم أن علينا أن نصبر ونتفاءل وإنْ بحذر، لأن مسار العودة لن يكون مفروشا بالورود. لا يزال أناس كعبد المنعم الشحات رضوا بالاتجاه الجديد وألسنتهم تلعنه، وقلوبهم تمقته، وقد يقفز أحدهم على الشراع يريد أن يعيدنا إلى الاتجاه السابق. لو حدث هذا الآن، بعد أن ارتضوا الاحتكام إلى سلطة الشعب، سنقف جميعا ضدهم، كما وقفنا ضد الاستبداد وانتصارا للديمقراطية. سنقف ضده كمجتمع لا كسلطة ولن نكون على الحياد. أليست هذه هى الثورة؟ بلى، إنها ثورة. والتضحيات لم تضع هباء كما يروج البعض.