أخبرنى صديق من ظرفاء هذا الزمان بأنه يستبشر خيرا فى الدولة القادمة أيا ما كان لونها. فلما رفعت حاجب الاستنكار ضحك وقال: إن ظلت السلطة على حالها فى يد العسكر ستغيب الحرية ولكن سيعود الأمان، ويختفى البلطجية فى جحورهم كالجرذان. أما إن اقتنصها السلفيون فقد يعيدوننا لعصور الظلمات ولكنهم سيبيحون لنا اقتناء الجوارى الحسان، لأن النص القطعى الدلالة حلل الاستمتاع بما ملكت أيماننا. استمر صديقى يعدد الاحتمالات وتركنى مشدوها وهو يؤكد أن أيا منها مهما بلغ من شطط لن يخلو من خير، فتركته غارقا فى اطمئنانه بينما يدور فى رأسى بيت شعر عبقرى لأمير شعراء الحداثة أمل دنقل يقول: «لا تحلموا بعالم سعيد. فخلف كل قيصر يموت قيصرٌ جديدْ» وهو بيت استدعته ذاكرتى من قصيدته الرائعة كلمات سبارتاكوس الأخيرة، التى تحكى عن ذلك العبد الثائر الشهير الذى حاول تحرير أقرانه فى روما القديمة فلم تكتب لمحاولته النجاح، ووقع فى أسر القيصر الذى أمر بصلبه على قمة شارع الإسكندر الأكبر ليكون عبرة عندما يراه الناس وهم ينحدرون فى غدوهم ورواحهم فيحنون جباههم بانكسار فى سعيهم للحصول على رزق أطفالهم الجياع، بل وتزداد القصيدة انهزامية حينما يخبر سبارتاكوس رفاقه بأن يعلموا طفله وأطفالهم الانحناء للقيصر حتى لا يختبروا مصيره التعس. بالطبع أكاد أسمع بعض القراء يستنكرون ما أقول، ويعتبرونه رؤية سوداوية تصادر على المستقبل. لذا يلزم أن أسارع لأطمئنهم بأن الشاعر ربما لم يكن يقصد الاستسلام للعبودية ولكنه استخدم تلك القصة المحبطة لاستثارة الهمم على طريقة علم النفس المعاكس الذى يدفعك لاتخاذ الموقف المضاد الصحيح عندما يعملق أمامك اليأس ليثير نخوتك ويستنفر غرائزك القتالية، والدليل أنه يؤكد فى مطلع قصيدته تمجيده للرفض كخطوة ضرورية نحو التغيير حتى وإن نتج عنه مكابدة الألم الأبدى (المجد للشيطان معبود الرياح من قال لا فى وجه من قالوا نعم) ولكنه يعلمنا قيمة المواجهة والتضحية لصنع المستقبل. إنها قصيدة مبهرة تحتاج لدراسة تفرد لها، وتناولى للبيت الذى اخترته منها لم يكن بغرض إلقاء اليأس فى قلوب الثوار الحالمين بالعدل والحرية، بل هو دعوة للتأمل فى أحداث دارت حولنا واستدعت ذلك البيت المحبط إلى ذاكرتى، لعله يدفعنا لاختيار الطريق الصحيح المعاكس والإصرار على بناء دولة متحضرة مهما كانت التضحيات، واضعين نصب عيوننا بيتا لشاعر عبقرى آخر هو فؤاد حداد، أشعر الإنس والجن، الذى يقول بالعامية (وعرفتك من جراحك يا قاطف العسل) متفوقا على الحكمة الشعبية التى يستلهمها التى تقول (مافيش حلاوه من غير نار). ما علينا، لنعد إلى موضوعنا. كلنا ولا شك نعرف القيصر القديم المخلوع، ولكن تُرى من هو القيصر الجديد الذى تتحدث عنه قصيدة سبارتاكوس فى حالتنا المصرية الراهنة؟ أهو مجلس الجنرالات؟ أم تيارات الإسلام السياسى التى ترفض المبادئ فوق الدستورية؟ أم النخبة التى تدّعى معرفة مصلحة الشعب أكثر منه وتحاول أن تفرض وصايتها عليه؟ أم جند النظام القديم الذين ينتشرون كالخلايا السرطانية فى جسد الدولة ويطمحون إلى إعادة إنتاج الديكتاتورية باستخدام القوائم الفردية التى منحها لهم قانون الانتخاب المعيب؟ بصراحة وبلا مواربة، القيصر الجديد هو كل هؤلاء، بل وأضف إليهم كل من يعتقد أن الديمقراطية ليست قيمة مطلقة فى حد ذاتها، بل مجرد وسيلة مؤقتة يستخدمها ليُلقى بها فى أقرب مذبلة بمجرد وصوله إلى الحكم. أنا شخصيا لا يفرق معى من سيصل أولا إلى مقعد السلطة، بقدر ما يهمنى أن تكون هناك طريقة تضمن إمكانية تداولها نزولا على رغبة الشعب، وهنا يحضرنى سؤال مباشر بلا لف ولا دوران، يحتاج إلى شجاعة للإجابة عنه بوضوح وصراحة: إن كانت التيارات الإسلامية ترفض الموافقة على صياغة مبادئ فوق دستورية قبل إجراء الانتخابات، مثل تداول السلطة بالاقتراع الحر المباشر، وحق المواطنة، وتكافؤ الفرص بلا تمييز لنوع أو دين، وحرية التعبير والاعتقاد، وحق الإضراب، والعدالة الاجتماعية، واحترام مواثيق حقوق الإنسان، إلى آخر تلك المفاهيم التى أصبحت أيقونات فى ضمير العالم الحر، فهل يعنى هذا أنهم لا يعترفون بها، وأنهم بصدد استبعادها من الدستور الجديد الذى يرغبون فى الاستئثار بتشكيل لجنة صياغته؟ إنه سؤال كاشف لأنهم إن أجابوا قائلين (لا) تكون موافقة منهم على صياغة تلك المبادئ وتضمينها الدستور قبل بدء الانتخابات. بينما الإجابة بنعم تشير بإصبع الاتهام إلى ديكتاتوريتهم لرفضهم حقوق اكتسبها الإنسان بتضحياته وصراعه ضد قوى الشر على مر التاريخ، ولا يصح لأحد أن يحرمه منها تحت أى تسمية أو بأى مبرر. الأمر فى اعتقادى يحتاج إلى شجاعة لكى يوافق الإسلاميون على تلك المبادئ الحاكمة ليثبتوا للجميع عدم انتهازيتهم واقتناعهم بأن الديمقراطية أداة يمكن استخدامها أكثر من مرة واحدة. كما أن أنصار الدولة المدنية عليهم القبول بأن من يأتى به صندوق الانتخابات هو الجدير بتمثيل الأمة وقيادتها بلا أى وصاية من أطراف، تدعى أنها تفهم مصلحة الشعب أكثر منه. ما يحدث فى بلادنا الآن يؤكد أن الشاعرين العظيمين كتبا بيتين، أحدهما بالفصحى يدعو فى ظاهره إلى التشاؤم، والآخر بالعامية ينضح بالتفاؤل المقترن بألم الجراح، ورغم ذلك فلا يوجد أى تنافر بينهما، لأن قاطف العسل حتى وإن طالته اللدغات فهو الوحيد الذى يحق له أن يحلم بعالم سعيد، أو بعالم أفضل على أقل تقدير.