رئيس الوزراء يلتقي نقيب الصحفيين لمناقشة سبل تطوير ودعم مهنة الصحافة    محافظ كفر الشيخ يتفقد السوق الدائم بغرب العاصمة    وزير الرى: علينا تسخير طاقاتنا ومواردنا لتنمية المياه بأفريقيا بعد 2025    إي إف چي القابضة تشتري أسهم خزينة لدعم سعر سهمها في السوق    وزير السياحة: نستهدف زيادة الطاقة الفندقية في القاهرة إلى 60 ألف غرفة خلال 7 سنوات    رئيس مركز ومدينة الشيخ زويد يناقش مع مشايخ ووجهاء الشيخ زويد قانون التصالح    صعود الأسهم الأوروبية ومؤشر التكنولوجيا يقود مكاسب القطاعات    داخلية غزة: استشهاد مساعد قائد قوات الأمن الوطني جراء عملية للاحتلال    فيديو.. ابنة قاسم سليماني تقدم خاتم والدها ليدفن مع جثمان وزير الخارجية الإيراني    الجودو المصري يحجز مقعدين في أولمبياد باريس    كولر والشناوي يحضران المؤتمر الصحفي لمباراة الأهلي والترجي    تعليم الإسماعيلية تنهي استعداداتها لانطلاق امتحانات الدبلومات الفنية    إصابة مراقب بامتحانات الشهادة الإعدادية إثر تعدي آخرين عليه في الشرقية    تفريغ كاميرات المراقبة بواقعة العثور على مومياء في الشارع بأسوان    استعد لعيد الأضحى 2024: أروع عبارات التهنئة لتبادل الفرحة والمحبة    ما حكم سقوط الشعر خلال تمشيطه أثناء الحج؟ أمين الفتوى يجيب (فيديو)    مدبولي يتابع موقف تنفيذ المرحلة الثانية من منظومة التأمين الصحي الشامل.. وموقف القطاع الصحي في حياة كريمة    التعليم ل طلاب الثانوية العامة: لا تغيير في كتيب المفاهيم هذا العام    «يرجح أنها أثرية».. العثور على مومياء في أحد شوارع أسوان    رئيس الوزراء يتابع موقف تنفيذ المرحلة الثانية من منظومة التأمين الصحي الشامل    موسم الحرب والغناء و303 على مسرح قصر روض الفرج.. الليلة    «اسم مميز».. تفاصيل برنامج إبراهيم فايق الجديد    زغلول صيام يكتب: من فضلكم ارفعوا إعلانات المراهنات من ملاعبنا لحماية الشباب والأطفال وسيبكم من فزاعة الفيفا والكاف!    حسين لبيب: اتحمل مسؤولية إخفاق ألعاب الصالات فى الزمالك    الأزهر للفتوى يوضح فضل حج بيت الله الحرام    محافظ أسيوط يوقع بروتوكول مع تنمية المشروعات لتطوير مدرستين ووحدة صحية    الأطباء تناشد السيسي بعدم التوقيع على قانون "تأجير المستشفيات": يهدد صحة المواطن واستقرار المنظومة    لحرق الدهون في الصيف.. جرب هذه الأكلات    أوستن يدعو وزير دفاع الاحتلال لإعادة فتح معبر رفح    تجديد حبس سائق ميكروباص معدية أبو غالب وعاملين بتهمة قتل 17 فتاة بالخطأ    ننشر حيثيات تغريم شيرين عبد الوهاب 5 آلاف جنيه بتهمة سب المنتج محمد الشاعر    أيام قليلة تفصلنا عن: موعد عطلة عيد الأضحى المبارك لعام 2024    تعاون بين الجايكا اليابانية وجهاز تنمية المشروعات في مجال الصناعة    التنمية المحلية: طرح إدارة وتشغيل عدد من مصانع تدوير المخلفات الصلبة للقطاع الخاص    وزير الدفاع: القوات المسلحة قادرة على مجابهة أى تحديات تفرض عليها    الكشف على 1021 حالة مجانًا في قافلة طبية بنجع حمادي    في عيد ميلاده.. رحلة «محمد رمضان» من البحث عن فرصة ل«نمبر وان»    6 أفلام في البلاتوهات استعدادًا لعرضهم خلال الصيف    مع عرض آخر حلقات «البيت بيتي 2».. نهاية مفتوحة وتوقعات بموسم ثالث    أكرم القصاص: لا يمكن الاستغناء عن دور مصر بأزمة غزة.. وشبكة CNN متواطئة    أتالانتا يجدد أمل روما.. وفرانكفورت يحلم بأبطال أوروبا    هل يجوز شرعا التضحية بالطيور.. دار الإفتاء تجيب    تريزيجيه: أنشيلوتي طلب التعاقد معي.. وهذه كواليس رسالة "أبوتريكة" قبل اعتزاله    الملك تشارلز يوافق على حل البرلمان استعدادا للانتخابات بطلب سوناك    رئيس وزراء أيرلندا: أوروبا تقف على الجانب الخطأ لاخفاقها فى وقف إراقة الدماء بغزة    تاج الدين: مصر لديها مراكز لتجميع البلازما بمواصفات عالمية    الرعاية الصحية تعلن نجاح اعتماد مستشفيي طابا وسانت كاترين بجنوب سيناء    «مش عيب والله يا كابتن».. شوبير يوجه رسالة لحسام حسن بشأن محمد صلاح    اشتراطات السلامة والصحة المهنية وتأمين بيئة العمل في ندوة بإعلام أسيوط    أمين الفتوى يوضح ما يجب فعله يوم عيد الأضحى    المراكز التكنولوجية بالشرقية تستقبل 9215 طلب تصالح على مخالفات البناء    السويد: سنمنح أوكرانيا 6.5 مليار يورو إضافية في صورة مساعدات عسكرية    اتفاق بين مصر وألمانيا لتمويل البرنامج الوطني للمخلفات الصلبة ب80 مليون يورو    جوزيب بوريل يؤكد استئناف جميع الجهات المانحة بالاتحاد الأوروبي دعمها لوكالة الأونروا    تعليم القاهرة تعلن تفاصيل التقديم لرياض الأطفال والصف الأول الأبتدائي للعام الدراسي المقبل    الداخلية تضبط 484 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة وسحب 1356 رخصة خلال 24 ساعة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 23-5-2024    ل برج الجوزاء والميزان والدلو.. مفارقة كوكبية تؤثر على حظ الأبراج الهوائية في هذا التوقيت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



(قانون صناعة الدهشة)
نشر في الشروق الجديد يوم 31 - 05 - 2010

عندما نبدأ فى قراءة سطر ما من قصيدة، فإن خبراتنا السابقة بالشعر تدفع عقلنا إلى توقع مجموعة نهايات ممكنة له. وتكمن عبقرية المبدع الحقيقى فى قدرته على تجاوز أفق التوقع لدى المتلقى وإدهاشه بصياغات لم يكن يتوقعها.
وقد كان الشاعر أمل دنقل مولعا بتحطيم أفق التوقع لدى المتلقى، حيث كان يعمد إلى صياغات النصوص الدينية ويعيد توظيفها توظيفا فنيا صادما للمتلقى بمخالفته لظاهر اللفظ فى النص المقدس.
وقد بدأ هذا الاتجاه لدى أمل فى قصيدة «كلمات سبارتكوس الأخيرة» التى بدأها بقوله:
المجد للشيطان معبود الرياح
من قال «لا» فى وجه من قالوا «نعم»
من علم الإنسان تمزيق العدم
وبالعودة إلى إنجيل لوقا الذى يقول: «المجد لله فى الأعالى»، وإلى قوله تعالى فى سورة البقرة «وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين»، فإن ظاهر النص الشعرى قد يوحى بعصيان الله ومعارضة الملائكة، لكن سياق القصيدة الذى يرد فيه الخطاب على لسان إنسان دعا الله إلى تكريمه، وأن هذا الإنسان سبارتكوس عبدٌ مطالبٌ بالسجود لقيصر وقد دعا الله إلى عتق الرقاب، فإن الكفر فى هذا السياق ينسب إلى قيصر الحاكم المتغطرس الذى رفع معارضته إلى مستوى العصيان الإلهى، وليس إلى الشاعر الذى ارتدى قناع سبارتكوس محرر العبيد.
وعندما يقول الشاعر فى القصيدة نفسها:
والودعاء الطيبون
هم الذين يرثون الأرض فى نهاية المدى
لأنهم لا يشنقون!
فالعودة إلى إنجيل متى الذى يقول: «طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض»، قد تثير فى ظاهرها شبهة التعارض الساخر، لكن الحقيقة غير هذا تماما. فنص الإنجيل يتحدث عن توريث الأرض للمؤمنين بعد بعثهم، أما القصيدة فتتحدث عن توريث الأرض فى الحياة للخانعين الخاضعين الموالين لقيصر الذى يرفع نفسه إلى مصاف الآلهة بوصفه مالكا حق المنح والمنع للحياة نفسها فى لحظة شنقه لسبارتكوس.
وقد تجلت قمة هذا التوظيف الصادم لصياغات الكتاب المقدس فى ديوان أمل «العهد الآتى» فى مقابل العهدين القديم والجديد، وقد صدره الشاعر بقصيدة عنوانها «صلاة» يقول فى بدايتها:
أبانا الذى فى المباحثِ. نحن رعاياكَ.
باقٍ لك الجبروتُ. وباقٍ لنا الملكوتُ.
وباقٍ لمن تحرس الرهبوتْ.
فإن هذه القصيدة تذكرنا فى ظاهر لفظها بمفتتح «الصلاة الربانية»،حيث قال السيد المسيح: «متى صليتم فقولوا: أبانا الذى فى السماوات ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك، كما فى السماء كذلك على الأرض».
ولا تفهم هذه القصيدة إلا فى سياق قصيدة سبارتكوس السابقة، والتى يقول فيها:
لا تحلموا بعالم سعيد
فخلف كل قيصر يموت: قيصر جديد
فإذا كان العدل لم يتحقق على الأرض فى العهد السابق وكذلك فى العهد الآتى، فإن الملكوت فى قصيدة «صلاة» باقٍ للودعاء الطيبين الذين سوف يرثون الأرض فى نهاية العالم، وبهذا تكون القصيدة متفقة تماما مع جوهر العقيدة المسيحية.
أما قمة التوظيف الصادم للصياغة القرآنية، فيتمثل فى قوله بقصيدة «الخيول»:
اركضى أو قِفِى الآن، أيتها الخيل:
لست المغيرات صبحا
ولا العاديات كما قيل ضبحا
ولا خضرة فى طريقك تمحى
ولا طفل أضحى
إذا ما مررت به، يتنحى
وها هى كوكبة الحرس الملكى
تجاهد أن تبعث الروح فى جسد الذكريات
بدق الطبول
وتعارض ظاهر اللفظ فى القصيدة مع سورة «العاديات» لا يحتاج إلى شرح، لكن سياق القصيدة يثبت عكس هذا تماما، حيث يقول الشاعر فى بدايتها:
الفتوحات فى الأرض مكتوبة بدماء الخيول
وحدود الممالك. رسمتها السنابك
والركابان: ميزان عدل يميل مع السيف حيث يميل!
حيث يقر الشاعر بدور الخيول فى تحقيق المجد العربى القديم عبر الفتوحات الإسلامية، لكنه يقارن الواقع العربى المتراجع بالماضى العربى المزدهر، مستخدما رمزية الخيل التى صارت جسدا متهالكا تستحيل عودة الروح له ولو بدق الطبول، لأن قيمة الخيول لا تكتمل إلا بقيمة فرسانها، حيث يقول:
والخيول التى انحدرت نحو هوة نسيانها
حملت معها جيل فرسانها
تركت خلفها: دمعة الدم الأبدى
وأشباح خيل، وأشباه فرسان
ومشاة يسيرون حتى النهاية تحت ظلال الهوان
ولا شك فى أن سياق القصيدة يمجد الحضارة العربية الإسلامية القديمة، ويتباكى على تراجعها متمنيا عودة ازدهارها مرة أخرى.
أما قمة توظيف أمل دنقل الصادم لصياغة الحديث الشريف، فتتمثل فى قوله بقصيدة «رسوم فى بهو عربى»:
(الناس سواسية فى الذل كأسنان المشط
ينكسرون كأسنان المشط فى لحية شيخ النفط!)
فالعودة إلى رواية الديلمى للحديث الشريف الذى يقول «الناس مستوون كأسنان المشط ليس لأحد على أحد فضل إلا بتقوى الله» قد تثير فى ظاهرها شبهة التعارض الساخر، لكن الحقيقة غير هذا تماما، لأن الشاعر يريد عبر توظيفه الجديد تأكيد أن الفضل بين الرجال فى الإسلام يجب أن يقاس بالتقوى، وليس بما يملكونه من أموال يعيدون بها البشرية إلى ظلام العبودية مرة أخرى.
على أن الدهشة الفنية فى النصوص الشعرية لا تتحقق فقط عبر إتيان الشاعر بكلمات مفاجئة وصادمة للمتلقى فقط، بل يمكن أن تتحقق أيضا بتكرار الشاعر المبالغ فيه للكلمات ذاتها، لأن المتلقى لا يتوقع هذا التكرار فيكون مدهشا له فى سياقه، وإلى هذا النمط التكرارى المدهش تنحاز شعرية محمود درويش.
وقد بدأ درويش هذا الانحياز مبكرا حيث نلمح بداياته فى قصيدة «إلى أمى» 1966، التى يقول فى مطلعها:
أحن إلى خبز أمى
وقهوة أمى
ولمسة أمى
وتكبر فىَّ الطفولة
يوما على صدر يوم
وأعشق عمرى لأنى
إذا مت، أخجل من دمع أمى!
فالشاعر ينهى السطور الثلاثة الأولى من المقطع بتكرار كلمة «أمى»، التى يتأرجح معناها المدهش بين الحسى والمعنوى وفقا لنوع المضاف، قبل أن يختمه بتكرار رابع فى نهاية السطر الأخير يجعلها الكلمة المهيمنة على المقطع لفظيا ومعنويا وبنائيا.
وقد انتقل درويش بعد ذلك إلى نمط آخر من التكرار المدهش يمثله قوله فى قصيدة الأرض»1975:
يغنى المغنى
عن النار والغرباء
وكان المساء مساء
وكان المغنى يغنى
ويستجوبونه: لماذا تغنى؟
يرد عليهم: لأنى أغنى
حيث يولد وصف الأشياء بذاتها دهشة فى نفس المتلقى، تؤكد لديه سياق الاعتياد الطبيعى لمشاغل بريئة لا يمكن أن تؤدى إلى الاستجواب.
وكلما تقدم الزمن بدرويش أوغل فى الاستخدام المتنوع لهذه التقنية، حيث يقول فى مفتتح قصيدة «سنخرج» 1986:
سنخرج،
قلنا: سنخرج،
قلنا لكم: سوف نخرج منا قليلا،
سنخرج منا إلى هامشٍ أبيض
نتأمل معنى الدخول ومعنى الخروج
سنخرج للتو
فالقصيدة تستخدم معظم الصيغ الصرفية الممكنة لمادة «خرج» للإيحاء للمتلقى باقتناع الفلسطينيين بالخروج من أرضهم، ثم يختم الشاعر قصيدته بمفارقة مدوية فى دهشتها قائلا:
قلنا: سنخرج حين سندخل.
حيث يلعب التكرار هنا دورا بنائيا متميزا يتمثل فى التمهيد للمفارقة المدهشة وتعميق حدتها، لتنقلب دلالة القصيدة كلها بآخر كلمة فيها، ويتحول زعم الخروج إلى تشبث مستميت باستعادة الأرض.
وقد يأتى التكرار المدهش لدى درويش فى ختام النص دون اعتماد على بنية المفارقة، حيث يقول فى ختام قصيدة «هذا خريفى كله»:
سلام للذين أحبهم عبثا
سلام للذين يضيئهم جرحى
سلام للهواءِ..وللهواءْ
وأظن أن القارئ هنا قد وصل إلى أقصى حدود الدهشة عبر التكرار، لأن آخر ما كان يمكن أن يتوقع وروده فى نهاية النص بعد واو العطف هو الكلمة نفسها.
فكما قال بارت فى كتابه «لذة النص»: «الكلمة تستطيع أن تكون منتجة للدهشة الفنية بشرطين متعارضين ومتجاوزين للحدود: إذا جاءت على حين غرة لذيذة بجدتها، أو على العكس تماما، إذا ما بولغ فى تكرارها»، ورحم الله الشاعرين أمل دنقل ومحمود درويش، فقد كان كل منهما علما فى خصوصيته المتميزة فى صناعة الدهشة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.