لا أعتقد أن أحدا أصابه الذهول من نتائج الجولة الأولى من الانتخابات فى مصر. فالجميع كان يتوقع أن يحقق مرشحو جماعة الإخوان المسلمين تقدما فى إطار ما يبدو أنه موجة صعود واضحة لجماعات الإسلام السياسى فى مختلف الدول العربية، بداية بتونس وليبيا والمغرب والجزائر، ونهاية باليمن وسوريا والأردن وفلسطين وتركيا. فهذه الأحزاب برزت بصفتها المنافس الأكبر للأنظمة الديكتاتورية العربية منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضى، وذلك مع تراجع واضح فى شعبية الأحزاب التى تتبنى الفكر الليبرالى أو اليسارى. فالمواطن العربى رأى فى تلك الأحزاب امتدادا للأنظمة الديمقراطية التى كانت قائمة، والتى كانت بدورها ترفع الشعارات القومية أو اليسارية أو الليبرالية كواجهة بينما كان مضمونها الحقيقى هو الديكتاتورية والقمع والفساد. هذه الأنظمة لم تكن تتبنى أى فكر سوى الحفاظ على السلطة والبقاء فيها لأطول وقت ممكن، مستغلين فى ذلك ارتباطات دولية وظروفا سياسية إقليمية أسهمت فى إبقائهم على كراسيهم لعقود دون مساءلة. بالطبع كان انتصار ما يعرف بالأحزاب السلفية، وتحديدا حزب النور، وحصولها على المركز الثانى، متفوقة بذلك على تحالفى «الكتلة المصرية» و«الثورة مستمرة»، لافتا وغير متوقع إلى درجة ما بالنسبة إلى الخبراء والمحللين الذين صدّعوا رؤوسنا فى البرامج التليفزيونية الحوارية وفى الصحف، فالفرضية التى روج لها هؤلاء كانت أن المصريين أكثر ميلا إلى تيار الإسلام المعتدل الذى تمثله جماعة الإخوان المسلمين، لا للفكر السلفى الوهابى المتشدد، الذى يجعل من تجمعاتهم أشبه بالأحزاب المغلقة التى لا تمتلك شعبية فى الشارع، ولكن تعتمد على ولاء أعضائها. ربما لم يثبت خطأ هذه الفرضية بالكامل، ولكن تأكد ابتعاد غالبية المحللين عن حقيقة ما يحدث فى الشارع المصرى منذ عقود، وتمكنت الأحزاب السلفية من الوصول إلى المواطن البسيط عبر المساجد والخدمات المتعددة التى تقدمها له. والآن يجد أنصار الإسلام السياسى أنفسهم أمام اختبار حقيقى سيحدد مدى إمكانية استمرار الشعبية التى يتمتعون بها فى الشارع، وذلك من خلال اختبار الأفكار التى يطرحونها كبدائل لما كان قائما على مدى العقود الماضية. البعض قد يقول إن البرلمان المقبل تحديدا قد يكون قصير العمر وإنه لن يتمتع بذلك الحجم من الصلاحيات التى تسمح للأحزاب الفائزة بإجراء تغييرات حقيقية. ولكن من المؤكد أن الجميع سيراقب أداءهم عن كثب لنكتشف ما إذا كان لديهم برنامج إصلاحى واسع لتحسين أوضاع الغالبية العظمى من المصريين الفقراء والإقرار بحقوقهم، أم أنهم سيبقون متمسكين بالقشور والمظاهر كما اعتدنا من نواب الإخوان المسلمين فى الدورات البرلمانية التى تمكنوا فيها من الحصول على عدد كبير من المقاعد وصل إلى 88 مقعدا فى برلمان 2005. هل سيستغل الإخوان والسلفيون وجودهم المكثف فى البرلمان للتفرقة بين المواطنين على أساس طائفى، وللمطالبة بمصادرة الروايات التى تخالف ما يرون أنه العقيدة الإسلامية، وإغلاق أماكن اللهو والفنادق التى تقدم الخمور، ومنع النساء من ارتداء المايوه وفرض الحجاب والنقاب عليهن، أو ربما الدفع لتطبيق الحدود من قطع للرؤوس والأيادى ورجم للزناة، واعتبار هذه الأمور من أهم أولويات الوطن؟ أم أنهم سيعطون أولوية للبناء والتنمية وتحسين معيشة كل المواطنين بغض النظر عن دينهم وجنسهم؟ بالطبع أنصار الإخوان والسلفيين سيسارعون إلى نفى هذه التهم، وترديد المقولات المعتادة من أن هذا يأتى فى إطار حملة التشويه التى يقودها العلمانيون ضدهم. ولكن هناك وقائع محددة تحتاج إلى إجابات، خصوصا مع وصول نواب إلى البرلمان يرون أن الديمقراطية كفر من الأساس وأن «الحضارة الفرعونية معفنة» وأنه لو كان الأمر بيدهم لقاموا بتغطية الآثار الفرعونية بالشمع على اعتبار أنها أصنام. هل ستكون هذه هى القضايا التى سيطرحها قادة السلفيين عندما يحتلون مقاعدهم فى البرلمان؟ هل هذا هو ما أراده الناخب المصرى عندما قام بمنح صوته لممثلى السلفيين؟ لا أعتقد ذلك، ولو كان الإخوان والسلفيون يتمتعون بالحد الأدنى من الذكاء السياسى لما جعلوا تلك القضايا من ضمن أولوياتهم. ويجب أن لا ينسى ممثلو الإخوان والسلفيين أن الشعب المصرى لم يصوت لهم وحدهم فقط فى الجولة الأولى من الانتخابات، ولو تم جمع الأصوات التى حصلت عليها الأحزاب المدنية بجميع تياراتها لتراوحت بين أربعين وخمسين فى المئة. وهو ما يؤكد أن هذه الأحزاب المدنية لو أحسنت العمل وبذلت الجهد الكافى لاستعادة ثقة الناخب المصرى، ربما يكون أداؤها أفضل فى الجولات المقبلة من الانتخابات. هذه الأحزاب المدنية وأنصارها من الشباب هم الذين أطلقوا ثورة 25 يناير التى سمحت للإسلاميين بتحقيق هذا الانتصار. وبينما كان أنصار هذه الأحزاب يضحون بأرواحهم فى ميدان التحرير من أجل إنقاذ الدولة المدنية وإنهاء حكم العسكر، كان الإخوان والسلفيون ينظمون صفوفهم ويستعدون بأفضل شكل ممكن لتحقيق أفضل نتائج ممكنة فى الانتخابات. أرواح أكثر من أربعين شهيدا سقطوا فى الموجة الثانية من الثورة هى التى دفعت العسكر إلى إعلان موعد محدد لانتخابات الرئاسة فى نهاية يونيو المقبل، لا ضغوط الإخوان والسلفيين. وإذا كان شباب ثورة يناير لم يكن لديهم الوقت الكافى لتنظيم صفوفهم قبل الانتخابات، كما افتقدوا الخبرة الطويلة التى يتمتع بها أنصار الإخوان والسلفيين فى العمل على مستوى الشارع، فإن الوقت ما زال متاحا لتغيير هذا الواقع فى الانتخابات المقبلة. الشعب المصرى يتطلع إلى حكام يتمتعون بالنزاهة ويحترمون حقوقهم. والشعب الذى ثار لتأكيد حريته ورفضه القمع الذى كان قائما على يد النظام المخلوع، لن يقبل أن يحكمه أى حكام طغاة جدد سواء رفعوا شعارات قومية أو دينية. المعركة لا تزال متواصلة والثورة مستمرة.