البلد الذى يعيش فيه فنان مثل عمار الشريعى دون أن يتلقى أرفع الأوسمة الرسمية، ودون أن يُنصب له تمثال يليق بعطائه فى أكبر ميادين القاهرة بعد تسميته باسمه، ودون أن تقام له كل عام فى عيد ميلاده احتفاليات رسمية وشعبية توسعه حفاوة وتنهال عليه حبا، هو بلد.. للأسف بلدنا. استعينوا على قضاء أيامكم بعمار الشريعى. نصيحة من أخ لكم انتهت علاقته بالصحيان غير «طايق لنفسه»، عندما هداه الله ذات صباح بعيد لكى يدير فى الكاسيت مع كوباية شاى منو فيه شريط أغانى مسلسل «أبو العلا البشرى»، الذى ما إن انتهى وذهب أخوكم لكى يعيد تشغيله ثانية، وهو خجلان من أن يقفز فى أنحاء البيت فرحان ومعترفا أنه لم يعد حزينا على الإطلاق، ففوجئ بصلاح جاهين يخرج له من الكاسيت ليضربه قلما أبويا حانيا هاتفا فيه «كرباج سعادة وقلبه منى انجلد.. رَمَح كإنه حصان لف البلد.. ورجع لى آخر الليل وقالّى ليه.. خجلان تقول إنك سعيد يا ولد». ومن يومها وأخوكم يجلد قلبه كل صباح بكرباج سعادة شريعى، أحيانا يكون «حاف» بموسيقى الهجان والنديم والزينى بركات وعصفور النار وهيمة، وغالبا يكون «متغمس» بشجن أبنودى «يا حبيبتى الشمس مش بعيدة إحنا إيدينا قصيرين»، أو مغموسا فى حكمة حجابية «تحت نفس الشمس فوق نفس التراب، كلنا بنجرى ورا نفس السراب»، أو منغمسا فى حيرة أحمد فؤاد نجمية «يا سكة الأحلام يا مغربة روحى أشكيكى للأيام ولّا اشتكى روحى؟». وقف عمار الشريعى إلى جنبى كثيرا، فى شقة أم ميمى الكائنة بنواحى حسن محمد بالهرم، كان يخرج من الراديو مرة كل أسبوع لأغتسل فى «بحر النغم»، فأنسى وعثاء الفقر وكآبة المنظر، وفى خُنّ شارع المحطة كان يخرج من شرايط (الأصدقاء) ليذكرنى فى لحظات بعينها أننى خرع وقابل للهزيمة بسهولة ومبصر لا بصيرة له، فأفوق لنفسى وأنسى فكرة الخروج من الحدود إلى الأبد، وأطارد مجددا أحلامى بحبيبة «من ضفايرها يطل القمر»، وفى شارع الفاتح ظل عمار على مدى أربعين يوما يجيبنى على ملا وشى فى السابعة والنصف مساء، ليتفرج رواد قهوة (الأهلى والزمالك) علىّ وأنا أبكى كطفلة دانماركية مدللة فور أن تهل دخلة تتر مسلسل «أرابيسك» العظيم، الذى كنت أشاهده على القهوة، لأنى أسكن فوق السطوح فى غرفة ليس لها سقف، فكيف يكون بها تليفزيون؟ وفى حارة سمكة خرج لى عمار من أول تليفزيون اشتريته بالقسط ليتهمنى بأننى باتلكك بتتر مسلسل الشهد والدموع، لكى أبرر قرار الانسحاب من معركة الحياة بدعوى أننا «تحت نفس الشمس فوق نفس التراب كلنا بنجرى ورا نفس السراب»، وفى شارع قصر العينى كان يزغر لى كأنه يرانى، كلما شاورت عقلى بالغرق فى باطل الصحافة تاركا سيد حجاب لكى يذكرنى «آدى الحقوق وآدى اللى طالبينها.. والحق تاه فى الباطل البطال.. وقلوبنا تاهت عن محبينها.. وآدى نجومنا بعيدة ما تنطال». وعندما أحببت تسامح عمار مع نشازى وأنا أعيش دور العاشق الدمشقى وأغنى لحبيبتى «وبتسأل يا حبيبى باحبك قد إيه»، وعندما تفرقنا أنا وحبيبتى أيدى سبأ ضحك عمار لأننى أوهم الكل بأننى مصدق أنه «إوعى تصدق أنثى.. المرأة خلاص إلغاء إعدام»، أتذكر يوم أن قلت لأحمد زكى أننى أعتبر هذه الأغنية لسان حالى فى الحياة، فقال لى بسخريته المملوءة دائما بالشجن «يا رب يتقطع لسان حالك يا شيخ.. ده إحنا عملنا الأغنية دى هزار.. قلت لصلاح جاهين إشمعنى أنا اللى ماليش غنوة لوحدى فى المسلسل.. فعملها لى.. هو فى حد يقدر يعيش من غير أنثى فى الدنيا دى»، تذكرت ذلك عندما عادت حبيبتى ثانية إلىّ، وكيف شعر عمار يومها أن أى كلام سيكون بايخا، فاكتفى بأن عزف لى حتة من تتر رأفت الهجان، ربما لأن قصة حبنا كانت ملحمية مع أنها لم تكن مأخوذة من ملفات المخابرات العامة. كل ذلك حدث لى قبل أن أعرف عمار الشريعى عن قرب، والغريب أننى منذ أن عرفته لم أجرؤ ولو لمرة على أن أعدد له أياديه البيضاء علىّ، لأننى أصاب بصمت أهطل فى حضرة الأساطير، يدفعنى زيادة فى الهطل لتجنب زيارتهم بانتظام. لكننى أمس عندما شاهدت حلقة له مع الراحل حسين كمال فى (سهرة شريعى)، التى أحرص على مشاهدتها بانتظام لشحن بطاريات الروح، انتهت الحلقة بى وأنا أبكى بكاء هستيريا، جعل ابنتى عشق تضحك علىّ ضاربة بكل حقوق الأبوة عرض الحائط، قررت أن أعمل بنصيحة جاهين، فأتصل بعمار فى نص الليل لأعلن له أننى لست خجلان من تعداد جمايله، لكن صوت ابنه مراد بادرنى داعيا لترك رسالتى بعد سماع الصفارة، ارتبكت محاولا أن أوجز ما أريد قوله، لكن الصفارة عاجلتنى معلنة امتلاء البريد الصوتى. عندها قررت أن أدوس على زرار يحذف ما تركته له على البريد الصوتى وأكتب هذه الكتابة، لا لكى يعرف عمار أياديه البيضاء علىّ، فلا أظنه مهتما بذلك، ولكن ليعرف مراد (إذا سأل يوما لماذا لا يوجد لأبيه تمثال فى شوارع القاهرة؟) أننا قررنا أن نرد على قلة أدب الرسميين وعمى بصائرهم، فأقام كل منا تمثالا يذكره بوقفات عمار الشريعى جنبه، وأنا وحدى يا مراد الذى نصبت لأبيك تمثالين، أولهما فى فايل «ماى ميوزيك» على الكمبيوتر، والثانى نصبته هناك فوق الكاسيت قريبا من شريط أبو العلا البشرى بجوار كرباج السعادة. (مقتطف من كتاب «أولئك آبائى» تحت الطبع أعيد نشره تحية لأستاذى وملهمى وصديقى عمار الشريعى أتم الله شفاءه بألف خير وأعاده إلينا بمليون سلامة).