اختلط الحابل بالنابل، ولم يعد أحد يستطيع أن يحدد هوية أى قناة فضائية، فالتوليفة محكمة بإتقان شديد، ولا يستطيع أعتى المتخصصين فى الإعلام أن يحدد هوية أى قناة، فالملاك الممولون للمحطات غير معروفين بتاريخ مهنى إعلامى.. وإذا عُرفوا اسما لا نستطيع أن نجزم بتوجهاتهم ونواياهم حيال توجيه الرأى العام، فهذه أموال سعودية معلنة، وتلك أموال كويتية متدثرة فى ثياب رجل أعمال مصرى عائد بملايينه، التى لا يعلم إلا الله كيف ومتى جمعها، عاد ليشكل خريطة الطريق المصرية بأسلوب ناعم.. ومصرى أسست له الست الوالدة قناة لا نعرف من أين أتت بأموالها هذه ولا من هى هذه الوالدة باشا!! ناهيك بدور الأموال القطرية فى مجال الإعلام، والمحصلة أن المشاهد البسيط يُدس له السم فى العسل، والمشاهد الواعى نوعا ما مرتبك لا يكاد يتبين مرامى الخطاب الموجه إليه. بل وحتى المتخصصين والصفوة لا يستطيعون أن يجزموا بشكل محدد وقاطع، لأن الطبخة الإعلامية المقدمة على الشاشة تجمع بين من كانوا من أشد أنصار النظام السابق والمطبلين له، وبعض الوجوه الإعلامية ذات القبول، والمعروف عنها بعض الاعتدال، وعلى سبيل التوابل التى يمكن أن تفوِّت التوليفة على المشاهد المسكين لا تخلو الطبخة من وجوه عرف عنها أنها كانت من المشاركين فى الثورة.. ويكاد لسان حالى يقول «إيش جمع الشامى ع المغربى؟!» ولا أدرى كيف قبل هؤلاء أن يعملوا وسط هذا الخليط؟ وما حجم الإغراءات التى دفعتهم إلى الوقوف فى نفس الخندق؟ والأهم كيف يستطيع الجمهور أن يتلقى وهو لا يكاد يتبين الأهداف والمرامى المختبئة وراء كل وجه من هذه الوجوه، وعلى أى شاشة؟! وأجدنى وسط هذا الخضم أشفق على المشاهد المصرى التعس الذى يفتح جمجمته ليلقى داخلها الغث والأكثر غثاثة -إذا صح هذا التعبير- وهو لا يدرى ما يُحاك له بليل، فى فترة غاية فى الحساسية والخطورة من حيث ضرورة تكوين رأى عام قائد فى هذه الفترة العصيبة بكل المقاييس. ولذا فكّرت فى أن أجرى وراء كل الأسماء المطروحة كممولين أولا، ثم كمقدمين للبرامج ثانيا.. حيث اختفى أو توارى دور المعدين الذين يُفترض أنهم المسؤولون عن صياغة آراء الناس وتوجيههم، سواء باختيار الموضوع أو الضيوف أو صياغة الأسئلة وتوجيه الحوارات وجهة بعينها.. وشاهدنا زحفا صحفيا كاسحا على الشاشة لا خلفها.. ففكرة أن يكتفى الصحفى بأن يكون خلف الشاشة رئيسا لتحرير أى برنامج كادت تتوارى أمام رغبة عارمة من الجميع فى الظهور عليها.. حتى لو كان وجهه غير تليفزيونى بالمرة ويخاصم الكاميرا أو تخاصمه تماما.. كأن مهنة مقدم البرامج لا تحتاج إلى أى مؤهلات شكلية!! فمن يطل أنفه خارج الشاشة، ومن تخرج أذناه عن الكادر.. وبالكاد كنا نحتمله كضيف لدقائق معدودة.. أصبح لزاما علينا أن نتملى فى طلعته البهية لمدة ساعة أو يزيد! أعرف بالطبع أن خلقته -سبحانه وتعالى- شريفة، وأن الجمال الباهر أو الوسامة المفرطة ليست مطلبا ملحا لينجح مذيع التليفزيون، لكن أن تكون طلّته استفزازية مع عدم تمكن فى الأداء، فهذا أمر يحتاج إلى إعادة نظر من القائمين على القنوات الفضائية التى انتشرت كالوباء. ولا أستطيع أن أحدد لماذا تم استقطاب كل هذه الوجوه، إلا أن الممولين يريدون ذلك.. أو أن أصحاب هذه الوجوه والأصوات لهم ذلة عليهم أو شركاء لهم فى رأس المال. الأمر الذى جعل من حقهم أن يفرضوا علينا عنوة وجوها وشخصيات من عينة اسبيدر، وبونوكيو وشركائهما! ولا أريد أن تأخذنى نقطة القبول التليفزيونى بعيدا عن النقطة الرئيسية وهى التمويل.. فالأمران مرتبطان إلى حد ما.. بل إلى حد كبير، فرأس المال الممول هو من يحدد من يظهر على الشاشة، وماذا يقول، أو ماذا يسكب فى الرؤوس المتعبة من التنقل بين القنوات فى محاولة لفهم شىء ما.. فلا يزيدها هذا التنقل إلا حيرة وارتباكا.. وتوهة بين تيارات متلاطمة من السياسيين والإسلاميين، والنخبة والمفكرين والمدعين، والمتحذلقين، الذين باتت لهم أسماء لم نكن نعرفها من قبيل: الخبير الاستراتيجى، والمفكر الكبير، والناشط الحقوقى، والمحلل السياسى، والباحث فى شؤون أى حاجة! إلى آخر هذه الألفاظ الموحية بالأهمية، التى تشد المشاهد لمتابعة ما يقوله الضيوف المتصارعون كالديكة، عسى أن يصل إلى فهم شىء يساعده على الاتجاه فى مسار ما، أو اتخاذ قرار بعينه، فلا يصل إلا إلى قرار واحد وحيد بتحويل القناة، وما أسهل ذلك فى عصر الريموت كنترول.