يقول خوان ميراندا/رود ستايجر -ثائر الصدفة الذى يضعه المخرج الإيطالى سيرجيو ليونى فى قلب ثورة مكسيكية فى فيلمه الكبير «من أجل حفنة ديناميت. 1971»- موجها حديثه إلى «الناشط» المحترف جون مالوى/جيمس كوبرن: «لما اتكلم عن الثورة فأنا عارف أنا باقول إيه. الناس اللى بتقرا كتب بتروح للناس اللى مابتعرفش تقرا، الفقرا، ويقولولهم: إحنا لازم نغيّر. وبعدين الفقرا يعملوا التغيير، هه؟ والجماعة بتوع الكتب يقعدوا كلهم على ترابيزة بتلمع، يدّوها كلام فى كلام وأكل فى أكل، هه؟ وبعدين الفقرا حصل لهم إيه؟ ماتوا! آدى الثورة بتاعتك». هذا المفهوم الذى يوسّع الهُوّة بين النخبة السياسية والاجتماعية وبين الجماهير حاضر فى الثورة المصرية كأوضح ما يكون. ويسهم الإعلام العشوائى -الموصوف يا للعجب بالمهنية- فى ترسيخ هذه الهوة وتوسيعها وتعميقها بأدائه الذى يصر على أن يكون «تابلويد» مصورا وإن أتى غالبا من دون صورة حتى! تأمّل معى حصيلة التغطية التليفزيونية فى عمومها لقضية حبس الناشط علاء عبد الفتاح: الذى يبقى فى ذهن المشاهد من كثرة الإلحاح على زوايا بعينها، هو أن علاء (ابن ناس)، عائلة من أساتذة الجامعات أمًّا عن جدًّ، كان يعمل فى جنوب إفريقيا، وكان مسافرا فى أمريكا أم الدنيا حين استدعى إلى النيابة العسكرية، تزوج وعمره فى العشرينيات الأولى فى بلد صار فيها (تكوين النفس) مرادفا ل(ضياع العمر)، لديه شقة زوجية محترمة، بها حجرة للجنين (خالد) وهذه الحجرة فيها عمال، والعمال يجهزونها بالديكورات اللازمة للطفولة، وتأخذ مأساة الجنين خالد السؤال الرئيس فى الحكاية: هل يتمكن الأب من حضور الولادة؟! وفى وسط هذا العك الإعلامى -الذى يذكّرنى بفيلم آخر هو «ذيل يهز كلبه»- أسجل احترامى الشديد للشخص الوحيد الذى كنت مستعدا لأن أقبل منه أداءً سنتمنتاليًّا عاطفيا فى الحكاية، وهى الدكتورة المحترمة ليلى سويف والدة علاء. فهى، على عكس الجميع، الوحيدة التى كانت تعود دائما وتذكّر بالقضية الأساسية، وتقول علاء «مش لوحده»، بل تذكر -بالاسم- معتقلين آخرين وتطلب لهم الحرية. وللأمانة أنوه بمقال نجلاء بدير عن أم ياسر، بينما العالم كله من نيويورك إلى طنطا لا يريد إلا أن يرى أم علاء! أما السادة المذيعون ومقدمو البرامج فكانوا مصرين على العودة إلى الشهد والدموع: أحدهم قام وقبّل يد ليلى سويف! الآخر حن على الغلابة وقال إن علاء معاه تمانين «واحد»! والثالث شارك الأول والثانى فى ابتسامة معناها «يا حرام» بامتداد الساعات التى التقوا فيها جنين علاء وزوجة علاء ووالدة علاء وخالة علاء. حتى علاء، للأسف، كتب من زنزانته الضيقة عن جهاده فى حماية نظّارته من أقدام «ثمانية» من زملاء الزنزانة! هكذا! «ثمانية» مجرد رقم بلا أسماء ولا حكايات ولا حضور إنسانى! مجرد أقدام تهدد النظّارة! حتى السؤال الصحفى المهنى الوحيد الذى انتظرت إجابته، لم يُسأل: هل التهم الموجهة -وإن كانت ملفقة حتى- هل هى من اختصاص النيابة العامة؟ الإجابة أتتنى من كاتب مرموق ورجل قانون بارز، متعاطف مثلى مع علاء، ليقول لى إن هذه التهم من اختصاص النيابة العسكرية! هكذا شاء علاء عبد الفتاح أن يدافع عن قضية مشروعة هى التمسك بالمحاكم المدنية للمدنيين، لكنه توهم الفرصة الخاطئة. فتغيير القانون لا يتم فى أثناء نظر قضية فى مكتب المحقق أو قاعة محكمة، بل له آلياته ومساراته التشريعية الشرعية. والالتزام بالقانون هدف ثورى لا يقبل أن يغفله الثوار. والمعيار الفاصل هو فى السؤال ما إن كانت تهمة سرقة سلاح عسكرى من وحدات فى أثناء تأدية مهمة موكلة إليها، حتى فى الأحوال العادية بعيدا عن الثورة، هل هى تهمة من المنطقى أن يحقق فيها القضاء العسكرى أم لا؟ ثم هى تهمة وليست إدانة، وقد تكون ملفّقة وكيدية -والأغلب أنها ملفّقة وكيدية- ويكفى المثول أمام المحقق ونفيها ودحضها لتنتهى قضية علاء، وتبقى القضية الرئيسية وهى رفض محاكمة المدنيين عسكريا، عن تهم يشملها القانون المدنى ويختص بها النائب العام. لست مع جعل علاء أو غيره من الملائكة. هم شباب محترم مسؤول وشجاع، وله علينا حق المؤازرة فى الحق بالتأييد، وفى الخطأ بالتصويب. ولست مع جعل علياء المهدى من الشياطين. الشابة التى خرجت للتو من سنين المراهقة تدافع عن مفهوم شامل وجذرى للحرية، دون أن تعرض هذا المفهوم للفرز أو التجربة. هناك فارق حاولت الإشارة إليه فى كتابات سابقة بين الحرية «التلقائية» أى أن أفعل ما يعن لى ويخطر على بالى أيا كان، وأقول لآخرين: يا أخى أنا حر! وبين معنى عميق للحرية يشمل حتى حريتك من هذا المفهوم التلقائى المجانى للحرية. فى رسالته للكورينثيين، يقول بولس الرسول: «كل الأشياء مشروعة، لكن ليس كل الأشياء ذا فائدة أو محقِّقًا لمصلحة. كل الأشياء تحلُّ لى، لكننى لا أصير عبدا لشىء منها). لا يهمنى هنا المعنى الدينى لأننى أنظر إلى النص كحامل فكر وحسب. فعلة علياء المهدى بنشر صورها عارية تماما، لا تعدو بالنسبة إلىّ كونها فعلة شابة «مُحْدثة حرية» على وزن محدثى النعمة الذين يحشرون غرفة السفرة بأثاث شقة كاملة! الإنسان لا يصحو صباحا ولديه قائمة طويلة بحقوقه وحرياته التى كفلتها له الإعلانات الدولية والمانيفستات الليبرالية والشرائع السماوية والأرضية، حتى يمارسها جميعا مرة بعد الإفطار وأخرى قبل النوم! صورة علياء العارية مجرد سؤال ورسالة فى شكل صورة، تماما كما فعل فنان دادائى هو مارسيل دوشامب قبل نحو قرن بمحاولته وضع مرحاض فى معرض فنى موقعا باسمه وحاملا عنوان «نافورة»، فقط ليقول رسالة فحواها إن كل شىء يصلح موضوعا للفن. مجرد إثبات لنظرية. وصلت الرسالة وسُجِّلت فى تاريخ الفن. أما «النافورة» فالذى حدث فعلا أن منظمى المعرض ألقوها فى الزبالة، ولم يهتم باستعادتها دوشامب، وفُقِدت من حينها وطواها النسيان، تماما كما سيطوى النسيان صورة علياء المهدى، بينما تحتفظ الذاكرة بسلامة مفهوم «نظرى» للحرية.