ليس مهما أن تنزل التحرير.. المهم لماذا تنزل؟الميدان ليس مجال استعراض قوة تيار سياسى، أو تصفية حسابات بين تيارات اختلافها رحمة وتعدد سياسى، إذا كان الاختلاف وفق قانون السياسة لا اللعب بالأسلحة المحرمة. الميدان هو فضاء عام، تلتقى عنده الإرادات السياسية لبناء نظام سياسى جديد. استعراض القوة ممكن فى الانتخابات. لكن الثورة ليست انتخابات ولم تنجح كل محاولات خطفها أو الركوب على موجاتها العالية والهروب من تحدياتها الكبرى سواء مع بقايا النظام أو إدارة المرحلة الانتقالية مجلسا وحكومة. الميدان للثورة لا للاستعراضات الانتخابية، والثورة لم تقم من أجل تحرير الصندوق، وإنما من أجل بناء الأرضية السياسية لنظام ديمقراطى. تبدو الألعاب المحرمة أو اللعب لصالح تيار عبثا جديدا، سيخسر أصحابه لأن روح الثورة أقوى، ورغم كل الحروب الكبيرة والصغيرة لا تزال تسرى وتمنح الأمل، والمشكلة أنه أمل مفرط، ورغبة فى تحقيق سريع لنهاية سعيدة. السياسة بناء، وتغيير نظام سياسى كامل ليس نزهة فى حديقة الأزهر، لكنه إعادة إعمار لبلد هدمه الاستبداد والفساد فى حرب استُخدمت فيها أسلحة الدمار الشامل. مصر تخرج من خرابها إلى بناء جديد، وفق خيال صنع ثورة وما زال يؤرق ثوارًا تكبر مساحتهم على عكس كل مروجى خيبات الأمل. مَن كان يتصور أن شرعية فكرة رنانة مثل حكم العسكر تنتهى بهذه السرعة، أو أن التفكير فى مواجهة التحالفات السوداء بين ماكينة التسلط وأحزاب السمع والطاعة، تنكشف بسهولة؟ مَن كان يتصور أننا ندافع عن مرشحين وقوى سياسية لا نحارب وحشا اسمه الحزب الوطنى؟ مَن كان يتصور أن كل أراجوزات السياسة يثيرون الضحك ولا يتحكمون فى مصير البلاد؟ الأراجوزات للتسلية، وإعادة إنتاج التفاهة بعد قلة إنتاجها بعد الثورة، أما مصير البلاد فليس بيد أحد، رغم محاولات المجلس العسكرى احتكاره وتحويل السياسة إلى مخزن أسرار.. لكنه لا يستطيع لأن التيار أقوى من هذه الرغبة. كما أن التيارات غير المسيّسة، أو التى تخوض حروبها الأخيرة تفرز تيارا مسيّسا وعقلانيا منها يدرك طبيعة المجال السياسى واختلافه عن ملاعب الإرهاب المسلح أو جماعات البوليس الدينى الموجودة فى السعودية. الجمهورية الجديدة ما زالت حلما، وخيالا، يلهم ملايين لم يعد مقبولا لديهم إعادة إنتاج جمهورية التسلط. لم يعد مقبولا لدى جمهور واسع، التعامل مع الرئاسة على أنها مقعد عال فى أبراج الكهنة. ولا أوامر السلطة فرمانات تنفَّذ بالحديد والنار. لم يعد ممكنا أن تغوى السلطة العسكر فيستسهلوا اقتناصها.. يحاولون أن يتركوا أصابعهم على زر الدولة.. لكنهم يفشلون فى كل مرة وتكسب الثورة ويكسب المجتمع. الجمهورية الجديدة تُبنَى على احترام وجود الجميع ونزع كل تمييز بناء على الدين أو أسبقية الميلاد أو الرتبة أو الثروة. جمهورية لا تهمش أكثر من نصف سكانها ويستعرض سياسيوها على النصف الآخر بكتالوجات المواطن المثالى. جمهورية هدفها الحياة السعيدة وتقديم خدمات الصحة والتعليم والعمل. جمهورية سيادة القانون. جمهورية تخلق فضاء سياسيا عاما لا تحتكره طائفة ولا مؤسسة ولا لون سياسى ولا قوة عسكرية. جمهورية لا تحكمها المؤسسة الأمنية. جمهورية جديدة لا قداسة فيها لحاكم. .. هذه هى أهداف العودة إلى الميدان. إذا أردت أن تعود إلى لحظة صوفية تهز فيها الثورة أركان الجمهورية القديمة، انزل واصطحب معك أولادك وعائلتك، فهذه ثورة مجتمع لا تيار أو فصيل أو تنظيم أو جماعة.. ثورة مجتمع يريد الحياة بكرامة وحرية. يريد إقامة دولة مواطن لا دولة حكام يصنعون من أنفسهم آلهة أو أبطالا أو صَحَابَة.