مصر بلد ماعندهاش دم.. هذا ليس انتقادا لشعب مصر، ولا وصفا دقيقا لرجال النظام والحكومة، ولا حتى للمجلس العسكرى، ولكنه فى واقع الأمر حقيقة فعلية، فعلى الرغم من أننا واحدة من أعلى دول العالم فى نسبة حوادث الطرق، وحوادث انهيار العمارات، والحوادث العشوائية، الناتجة عن الاستهتار والإهمال، فإن بنوك الدم لدينا ليس لديها أبدا ما يكفيها، ولا ما يمكن أن تسعف به مريضا، يحتاج من أجل الإبقاء على حياته إلى قطرات غالية من دمى ودمك، ودمائنا جميعا.. صحيح أننا فى لحظات الخطوب والكوارث والانهيارات والزلازل نبادر كلنا بالوقوف صفوفا أمام سيارة ومراكز التبرع بالدم، ونجعل الدنيا حمراء قانية، ولكننا فى الأيام العادية لا نبالى بالأمر أو نلتفت إليه، إلا لو تعرضنا أو تعرَّض أحد أحب الناس إلينا إلى حادثة أو مرض، يستدعى التبرع بالدم (لا قدر الله)، فننتبه ونهتم، ونجرى لنلف على بنوك الدم، فى طول مصر وعرضها، فى عرض كيس دم بأى ثمن.. المشكلة أننا لا ندرك أن الذين يحتاجون إلى الدم ليسوا مصابى الحوادث والكوارث فحسب، ولكن هناك مرضى دائمين، يحتاجون إلى نقل دم بصفة دورية، وإلا انهارت كياناتهم، وماتت أنسجتهم، وماتوا هم أنفسهم من نقص شريان الحياة الرئيسى.. الدم... الأطفال مرضى الدم يحتاجون إلى نقل دم بصفة دورية، وإلا أصابهم هزال شديد، وتوقف نموهم، وتهالكت أنسجتهم الضعيفة، وبعضهم لا يحتمل هذا النقص الرهيب، ويقضى نحبه، ربما على قيد أمتار من شخص متخم بالدم، يتناول وجبة شهية، ولا يدرك ما يحدث قريبا منه.. مرضى الفشل الكلوى كذلك يعانون من انخفاض رهيب فى نسبة الهيموجلوبين، ويصابون بأنيميا حادة، وفقر دم شديد، ويحتاجون طوال الوقت إلى نقل دم طازج، وكرات دم حمراء، وبلازما، وكلها مواد حيوية، لا يمكن إنتاجها، لأنها من صنع الخالق عز وجل، وتموج بها أجساد الشباب والأصحاء، لا بد أن ندفع ضريبة اختيارية عن صحتنا وراحة بالنا، ومشكلتنا أننا، بعد أكثر من نصف قرن من الوصاية الحكومية، أصبحنا نتصوَّر أن كل شىء فى الدنيا هو مشكلة الحكومة، وأن عليها أن توفره لنا، وتبذل الجهد من أجله، ونجلس نحن لننتظر ما ستحققه من نتائج، ولكن الحكومة ماعندهاش دم، وتعانى من نقص حاد فيه، على كل المستويات، وعلى المريض الذى يحتاج إليه أن يدوخ السبع دوخات، هو وأهله وأبوه واللى جابوه، حتى يحصل عليه، ويدفع فيه ثمنا غاليا، ويلعن الحكومة التى لم توفره له.. ولحديث الدم بقية.