فى زيارتى الأخيرة إلى تركيا لفت انتباهى أمر رأيته جوهريا، وهو أن مستوى النذالة فى سلوك الناس قد انخفض بصورة ملحوظة! منذ سنوات مضت كان الانطباع الذى تخرج به عند التعامل مع الأتراك أنهم شعب من الشطّار والأونطجية الذين يسعون إلى سلب السائح ماله بكل الوسائل. لكن هذا تغير بصورة لافتة فى الآونة الأخيرة، وتزامن هذا التغيير مع صعود حزب العدالة والتنمية ونجاحه فى إحداث نقلة كبيرة فى مستوى معيشة المواطن التركى، وكذلك نجاحه فى تحجيم سلطة العسكر الذين هيمنوا على القرار السياسى لسنوات طوال بصورة لم يترتب عليها سوى إفقار الناس ونشر ثقافة التسول واللصوصية بين الناس، فضلا عن انتشار الدعارة التى كانت مصدرا أساسيا من مصادر الدخل القومى، حيث تقوم المومسات والقوادون بدفع الضرائب وملء خزائن الحكومة! كل هذا كان يشجعه العسكر فى تركيا ولا يرون فيه ما يستوجب الخزى (العار)! الآن بعد أن ضعفت قبضة العسكر وصارت الإرادة الشعبية هى الحاكمة انحسرت الدعارة وفى طريقها إلى الزوال بعد أن وفرت الحكومة للناس فرصا للكسب بعيدا عن الاتجار فى عرض البنات والزوجات. ومن المظاهر التى يلمسها الزائر لتركيا أن نسبة سائقى التاكسى الأوغاد الذين يطوفون بالسائح المدينة كلها قبل أن يقوموا بتوصيله إلى مقصده قد انخفضت كثيرا. فى السابق كانوا كلهم على هذه الشاكلة، والآن أصبح السائق الأمين موجودا بصورة ملحوظة. ويمكن لهواة عقد المقارنات أن يقولوا إن مستوى النذالة فى سلوك الأتراك هو أقل بكثير من نظيره فى سلوك المصريين، سواء الذين يتعاملون مع السائح أو غيرهم، لكنه مع ذلك دون سلوك الناس فى أوروبا الغربية وأمريكا التى تكاد تنعدم فيها النذالة فيما يخص الخدمات التى يحتاجها الزائر كالفندق والمطعم وسيارة الأجرة وزيارة الأماكن السياحية والأسواق. وفى البلدان التى قطعت شوطا بعيدا فى الحكم الديمقراطى حيث الشفافية والمحاسبة والمشاركة وتداول السلطة لا بد أن ينحسر الفساد ويرتفع المستوى الاقتصادى والاجتماعى للناس، فتتحسن أخلاقهم ويقل احتياجهم للكسب الحرام.. أما الذين يكتفون بالمواعظ والخطب والبرامج الدينية ويتصورون أنها كفيلة بتحسين أخلاق الناس مع استمرار حكم اللصوص وغياب الديمقراطية، فإنهم لن يحصلوا إلا على شعب من الحرامية والمرتشين الذين يؤدون الصلوات فى مواعيدها ويكثرون من البسملة والحوقلة وقول: «قدّر الله وما شاء فعل» بعد كل جريمة يرتكبونها فى حقك! ولا يُتصور أبدا أن سائقا إنجليزيا مثلا يقطع بك شوارع لندن قبل أن ينقلك إلى الشارع المجاور الذى هو وجهتك.. وهذا للعلم حدث لى فى دمشق حيث نقلنى السائق من أحد طرفى ميدان الحجاز إلى الطرف الآخر فى مشوار استغرق ساعة، ولم يخبرنى السائق النذل أن العنوان الذى أريد الوصول إليه يكفى فيه عبور الرصيف! هى الديكتاتورية إذن التى تخرب أخلاق الناس وتحرمهم من الحرية الجالبة للسعادة والثقة بالنفس والأداء الاقتصادى الجيد، ومن يرد أن يتأكد فلينظر إلى السائح الأجنبى عندما ينزل مطار القاهرة وحجم النذالة التى يلقاها من كل من يقابلونه فى الجوازات والجمارك وعلى سير الحقائب وعندما يهم بركوب تاكسى، ومن موظفى الفندق والمطعم والبازار وأصحاب الجِمال والجياد والجحوش.. لهذا كله فإننا نريد أن نحذو حذو تركيا التى ودعت الاستبداد واحتكمت إلى صناديق الاقتراع وجعلت اليد العليا للشعب، وأعادت للجيش وظيفته الوحيدة وهى الدفاع عن الوطن فقط دون أى دور سياسى أو تشريعى. وربما لو أدرك الدكتور على السلمى كل هذا لما تورط فى وثيقة تحمل الكثير من بنودها مخاطر الوقوع فى حكم يحتقر إرادة الشعب وينشر النذالة بين الناس.. وكأننا فى حاجة إلى مزيد من النذالة والأنذال!