لا أصولية فى تركيا، على الأقل بالمعنى الذى نفهمه فى العالم العربى، لكن الإسلام موجود وحاضر بقوة فى عقول الأتراك وقلوبهم وسلوكهم، وإن لم ينعكس على مظهرهم. تباهى إسطنبول العالم بمآذنها العريقة، والحديثة، ويحترم الأتراك الأذان حين يتردد عبر سماعات خارجية من مسجد واحد فقط فى كل حى، يتوقفون عن الحديث وكأنهم يتدبرون لغة الأذان، ويتعجب الأتراك من تجرئنا على سماع آيات القرآن الكريم تتلى، بينما الناس منهمكة فى العمل، أو فى الحديث، هناك لا يمكن أن تجد سائق تاكسى، مهما كان تدينه، يدير راديو أو كاسيت سيارته على القرآن الكريم بينما هو منهمك فى القيادة أو الاستماع للزبائن، يقولون إن ذلك حرام، ولديهم طقوس خاصة فى سماع القرآن، مبنية على التفرغ والخشوع والتركيز والتدبر، يطبقون القول الكريم: «فاستمعوا له وأنصتوا»، المتدينون منهم يقرأونه فى المساجد وفى المنازل باستعداد مبهر، يرتدون «الطواقى» كنوع من الاستعداد الشكلى، ثم يخشعون فى القراءة بتركيز مفرط، ويؤمنون بأن القليل جداً من ذلك، أبرك وأنفع عند الله من تشغيله وتلاوته بإفراط دون التفات أو استماع أو إنصات. لا أحد فى تركيا يدعى محمد، وعندما يزورهم عربى يحمل هذا الاسم يسمونه «محمت» بتاء فى آخره بدلاً من الدال، هم يجيدون نطق الدال، لكنهم يقولون لك إنهم يعرفون محمداً واحداً، هو الرسول الكريم، يرددون اسمه دائماً بلهجة عربية «محمد عليه السلام»، ويؤمنون بأن التسمية المباشرة باسمه حرام، وأن للاسم قداسة تجعل من الصعب أن تقول عن زميلك أو جارك أو خصمك: «محمد فاشل» أو «محمد سيئ» أو «محمد متهم». التدخين ممنوع هناك فى كل المؤسسات والأماكن العامة، حتى فى المطاعم والفنادق، والغرف التى تدفع فاتورتها، القانون فى هذا الصدد حازم جداً ورادع، والمدخنون لا حل لهم سوى الشارع، أو منازلهم، أو سياراتهم، وعندما تحاول أن تنصح موظفاً بأن يدخن فى مكتبه الذى يجلس فيه وحيداً وأن يفتح النافذة يرد: «حرام»، هم ليسوا ملائكة، لا يخرقون القوانين، لكن أغلبهم لا يفعل ذلك خاصة عندما يتعلق هذا الخرق بصحة مواطنين ليسوا مدخنين، ومن حقهم بيئة نظيفة. لا يمكن أن تضبط أحداً فى المترو متلبساً بالإنصات لحديث جانبى، أو مكالمة هاتفية يجريها راكب بجواره، أو يحدق فى رجل غريب، أو حتى يكترث بقبلات حارة بين شاب وفتاة، والحجاب لا يشغلهم كما كنت أعتقد إلا فى دوائر عليا لديها قواعد بروتوكولية صارمة موروثة من التراث الكمالى، لكن شوارع إسطنبول تزخر بالمحجبات، اللائى يسرن بجوار غير المحجبات دون أن تناضل محجبة بتدينها، أو تتهم غير المحجبة بأن فى إيمانها ثغرة. فى تركيا، يعيشون الإسلام، ولا يتاجرون به، يظهر تدينهم فى سلوكهم، ولا يظهر فى أزيائهم ولحاهم، يملأ الإيمان قلوبهم، يصلون دون ضجيج، ويقرأون القرآن دون افتعال، يطبقون القول المأثور «الدين المعاملة» كما يجب أن يكون، وكل متدين منهم مؤمن بأن تدينه شأن يخصه وحده مع خالقه، يظهر فى سلوكه الطيب مع الآخرين، لا يرائى بنموذجه، ولا يقحمه على الآخرين محاولاً فرضه. يُقبل الأتراك على الحياة، دون أن يحرمهم إيمانهم من طعمها، بتفكير مفرط فى الموت والحساب والعذاب، ويخدم الأتراك آخرتهم بإيمان وقر فى القلب وصدقه العمل. [email protected]