5«الذكرى تنفع الثائرين» صعدت إلى سطح المسجد نتيجة نصيحة بعض المتظاهرين الذين اكتشفوا مكانا عاليا بجوار المئذنة تطلع منه على مشهد الميدان بشكل أشمل وأوسع، كانت كل الشوارع تعلن الغضب وكان الآلاف يحتشدون كتلا من حمم تهتف وتصرخ بسقوط النظام. هبطت إلى الميدان مدفوعا بالوجود على الأرض فى الوقت الذى أذّن فيه المؤذن بصلاة العصر، كانت المظاهرات تضيّق الحصار على محاصريها وتنهك قدرات الشرطة تماما على المواصلة حتى إن إخلاص فرد الأمن قاذف القنابل قد تراجع ونشاطه همد كثيرا عن أول اليوم، ساعتها زاد ضغط المظاهرات فجاءه أمر من كبيره فأطلق القنابل بسرعة فأطاحت واحدة بنافذة الجامع وضربت المتظاهرين الذين بدؤوا فى أداء صلاة العصر بالدخان المسيل للدموع فكان غضب يجلجل مع صراخ وتأوهات وإغماءات داخل المسجد فاندفع المتظاهرون أمام بوابته للتصادم مع الشرطة التى تراجعت بينما كانت حركة أقدام مندفعة فى انتظام وسيارات تتحرك فوق الكوبرى لحظتها، تمركزت الشرطة فى دائرة فى قلب الميدان ووراء الدائرة صفوف من الجنود أعادوا تعبئتهم، ظنها المتظاهرون استعدادا لهجمة أشرس لكننا فوجئنا بأغرب سؤال من ضابط وقف بجوار قاذف القنابل المتلفت: -يعنى لو سبناكم حتعملوا إيه؟ لم يتطوع أحد بالإجابة، فلا أحد يملكه فعلا لكننى أجبت بناء على أن جميع العيون توجهت إلىّ كأن الإجابة فى جيبى، فقلت: حنروح التحرير. تنهد الضابط بلا أى رد فعل صوتى آخر وتراجع إلى الخلف منضما إلى ضباط آخرين بدوا فجأة بلا عمل مع جنودهم، وفى لحظة الاسترخاء هذه كانت المظاهرات تقترب من شارع الهرم وتضم على متظاهرى المسجد، ولم تجد مقاومة من الجنود، جاءنى شرطى يرتدى زيا مدنيا وقال لى: أسامة بيه عايزك. لم أستجب فقد كانت المظاهرة قد جرفتنى، لكنه أصر قائلا: إحنا حنسمح بخروج الدكتور البرادعى. سرت خلفه حتى وصلت إلى مدخل المسجد الرئيسى، وكان الدكتور البرادعى قد ركب السيارة مع الدكتور أبو الغار والدكتور عبد الجليل وآخرين، وقفت السيارة ففتح لى زجاج النافذة، قلت متحمسا: المظاهرة نجحت تقريبا فى السيطرة على الميدان، ممكن تمشى معانا شوية؟ قبل أن يجيب أعفيته من الإجابة، فقد كانت الوجوه متعبة فعلا وتوشك على الإعياء. قال لى: هل تركب معى؟ قلت: لا يا دكتور، أنا رايح التحرير. انطلقت السيارة وقد اختفى الشرطى.. توجهت إلى الميدان حيث استقبلتنى أحضان متظاهرين وصيحاتهم وقبلاتهم وهتافاتهم ورغبتهم فى رفعى على الأعناق فرحا بتراجع الداخلية حتى تفتح الشرطة الصفوف وتفك الحصار، كانت الفرحة غامرة والإحساس بنصر شعب على قمعه مدهشا، خصوصا حين كان المتظاهرون يعانقون الضباط وهم يفسحون لهم الطريق، حتى قاذف القنابل الذى كان ساعتها متوترا وتائها ومنهكا تماما نسى المتظاهرون قسوته وقنابله وأمطروه قبلات شاكرة وهو لا يستوعب ماذا يجرى، كانت سماحة مطلقة وتسامحا ساميا من متظاهرين تجاه قامعيهم، الذين ظلوا قرابة أربع ساعات يحاصرونهم ويعتدون عليهم. خلال خمس دقائق فقط وفى معجزة تشبه أفلام الخيال العلمى اختفت الشرطة، كأن كائنات فضائية هبطت فى ميدان الجيزة وخطفتهم جميعا فرادى وسيارات ومدرعات. وكنا قرابة مئة ألف متظاهر طليعة المتظاهرين القادمين من شوارع الجيزة، وزادت حمولة الأسئلة: ماذا نفعل؟ إلى أين؟ كانت الإجابة: إلى ميدان التحرير طبعا. تقاطر الآلاف من كل الشوارع المحيطة بميدان الجيزة وصبا مصبوبا من شارعَى الهرم والربيع الجيزى الأكثر زحاما وطولا وجمهورا، عبرنا الميدان بهتافات تدوى «الشعب يريد إسقاط النظام»، على كل متر نخطوه كان الحماس يزيد ويكبر والحشد يتسع ويمتد، اخترنا المرور من حارة واحدة فى الشارع حتى نكون أكثر نظاما ونترك فسحة للسيارات على قلّتها وعلى وقوفها، لما زاد الحشد وطال تكونت بؤر ومجموعات من صفوف بشخص يقف فوق أكتاف زملائه ويهتف ويردد الأقرب له منا الهتاف، ثم مجموعات أخرى تترى وتتتابع، كل منها يقود هتافها شخص، حتى تزلزل أسفلت الشارع، كانت كل الشرفات والنوافذ مفتوحة ويطل منها سكانها، فكانت الهتافات موحدة تنادى «يا أهالينا انضموا لينا»، وكانت أعلام مصر تخرج من الشرفات ترفرف فى أيدى الواقفين فيها والتصفيق وإشارات التحايا تعلن عن تآزرها وتضامنها، كنا فى تقدير بعضنا قد وصلنا إلى مئتين وخمسين ألف مواطن. شباب المظاهرة مع رجالها وبناتها، لكنها خلت من وجوه الساسة المعروفة تماما رغم فرح الناس وتوهجهم برؤية واحد مثلى، كأنما يتزودون بمثلنا زادا وقوة أو شرعية، كان لهذا دلالته فى جمعة الغضب، هذا يؤكد لى أن مجموعات المثقفين والطبقة الوسطى العليا والشباب المنظم سياسيا هم كتلة 25 يناير الواسعة والرئيسية وعلى حوافها جاءت وجوه مثل الألتراس وشباب الجامعات، أما فى 28 يناير فى جمعة الغضب فظهر العدد المتسع من الحضور الجديد من المتظاهرين الذين يتظاهرون لأول مرة فى حياتهم (ثم لم تكن الأخيرة)، فإن الاحتفاء بوجود وجوه معروفة شهيرة سياسيا أو إعلاميا حدث يستحق أن يصافحك ويقبلك المئات حرصا وفرحا بينما تُطلَق فى وجوهنا القنابل ويُرمى بعضنا بالرصاص... نكمل غدا بإذن الله...