مشكلة هيكل أنه يريدنا أن نعود إلى ما قبل الثورة. الثورة أنزلت الجمهورية إلى الشارع. لم تعد السياسة صناعة غرف العمليات وأسيرة الرجال الأفذاذ الذين يديرون مصير الأمم فقط. لم تعد الدولة منصة علوية وغرفة تصنع فيها الأقدار، تنزل على عموم الشعب، وهذا ما لم يدر بخاطر هيكل الذى كان أقصى حلمه أو حلوله هو مجلس حكماء برعاية الجيش ينقل السلطة من جنرال إلى جنرال، أو يقرر أن يخلع أحد الجنرالات ملابسه العسكرية ويرتدى الملابس المدنية. لهذا من الطبيعى أن يتحدث هيكل ببساطة عن رئيس عسكرى، ويتصور أن الفساد كان فى مؤسسة الرئاسة وليس فى نظام حكم يدار دون مشاركة من قوة المجتمع. هيكل ابن دولة أخرى، وأحلام أخرى. الثورة أضافت إلى الدولة قوة المجتمع التى ألغيت بشكل كبير فى الدولة التى يتصور هيكل أنه ما زال فى عمرها بقية، لم يدرك بعد أن هذه الدولة واستمرارها هو الكارثة. لا تبحث الثورة عن توافق يغير تركيبة الحكام، ولكن عن توسيع المجال الديمقراطى الذى أغلق حين صادرت الدولة السياسة واحتكرت الوطنية واعتبرت الخارج عنها منبوذا أو شرذمة أو قلة مندسة باختصار عدو الشعب. هيكل «ابن الدولة» كما بنتها شرعية «الجنرالات» فى يوليو 1952، البعض يعتبره «شريكا» فى السلطة أيام عبد الناصر.. لكنها مبالغة لواقع يمكن أن نرى فيها خصوصية حكم زعيم يعتمد على الكاريزما (الجاذبية) السياسية.. ويقود الشعب بشرعية الثورة.. ويخطب فى الشرفات.. ويضع البلد كله على خط النار. الزعيم الملهم يحتاج دائما إلى صانع الأفكار.. ومهندس العمليات.. يحتاج إلى صحفى موهوب فى صناعة صورة للنظام، هيكل هو صانع الصور السياسية. هذه هى مهارته الأولى والمهمة التى احتاجها السادات فى بداية عهده.. حين مهد له هيكل الجسر إلى السيطرة الكاملة على السلطة فى صراعه مع مجموعة موظفين فى الدولة الناصرية سمتهم أجهزة الإعلام وقتها «مراكز القوى«. هيكل كان مهندس خطة السادات للاستيلاء على الحكم والتى سميت أيضا «ثورة التصحيح» لكن السادات تخلص من هيكل بطريقة مهينة وجعله يقرأ خبر إبعاده عن الأهرام فى الصحف مثل ملايين القراء. فى الحالتين كان هيكل ابن الدولة أو خبيرها الكلاسيكى. تجاوز دور الصحفى العادى إلى مهمة حامل الرسائل إلى الشعب والمشارك فى صناعة عقل النظام. هيكل ظل مخلصا للدولة فى لحظتها المثالية، وكما عاشها فى الستينيات، ورغم أن ظل الدولة والذى استمر، ظل ثقيل، فإن نصائح هيكل وقت الصراع بين المعارضة ومبارك كانت ثمينة فى توجيهها نقدا لوضع مؤسسة الرئاسة لا فى طبيعة النظام أو خروجه من ظل الرعاية المقدسة للجنرالات إلى أفق آخر يخلصها من التسلط. لم يكن لهيكل أزمة مع الدولة التسلطية، لكنها كان يريدها حنونة وعادلة، ومثالية أكثر. أحلام هيكل لم تكن فى إعادة بناء الجمهورية ولكن فى ترميمها، وهذا ما يبعده عن عملية أكثر صعوبة وتركيبا تصر فيها القوى الثورية على توسيع مجال الحريات لتبنى الجمهورية من أسفل، ولا تسقط جاهزة مكتملة من أعلى. الثورة تفكيك لدولة التسلط، وإعادة تركيبها بمشاركة قوة المجتمع المضافة بعد الثورة. قوى الثورة تتحرك وتحتل موقعا بين كيانات ثابتة بوعى أن الجمهورية الجديدة ليست إعادة استنساخ لجمهورية الجنرالات الفاضلة. الاستنساخ يغلق الخيال ويعلى من المنافسة على الغنائم كما حدث مع الإخوان والسلفيين وأحزاب معارضة مبارك، وغيرهم من طيف لم يقترب منهم خيال الثورة إلا بما يوحى لهم أن السد العالى للحزب الوطنى أزيح من أمامهم، وهم فى منافسة على موقع الحزب الوطنى فى الدولة. الجمهورية الجديدة ليست إعادة طلاء للمبانى وأقنعة على الوجوه، إنها بناء جديد تماما، وهذا بعيد بعض الشىء عن الأستاذ هيكل.