عاد علاء من السفر. وذهب إلى «س28» التى أصبحت شهيرة بعدما قرر المجلس العسكرى أن تكون المحاكم العسكرية أداته للسيطرة. علاء ينتظر ابنه، من زوجته منال التى لا يخفى حبه لها، على عكس الرجال المصريين الذين يرون الحب ضعفا. الحب قوة، والسياسة قوة، فى مواجهة سلطة تلغى هذه اللمحات المحببة، وتتعامل مع الإنسان على أنه رقم فى قطيع، وتستسهل الاعتداء عليه وعلى حريته، تحبسه وتهين جسده، تنتهك حقوقه وتلغى المسافة التى يخرج بها عن طاعته. علاء ذهب إلى «س28».. ولم يهرب من المواجهة، جسارة عشاق، يريدون التغيير، ولا يخافون فى سبيلها من الموت والرصاص والمدرعات وتكشيرة الجنرالات واتهاماتهم بالعمالة أو الخيانة لأننا لا نحب البلد على هواهم... أو كما يريدونها. ذهب علاء ورفض الإجابة عن أسئلة المحقق، لأن التحقيق مع مدنى أمام المحاكم العسكرية خطيئة سياسية وقانونية يصر المجلس العسكرى على ارتكابها بجرأة تذكرنا بتراث طويل من حكام تصوروا أنهم فوق القانون. المجلس العسكرى يتذكر القانون حينما يتعلق الأمر بتغيير النظام، ومحاكمة رموزه الفاسدة، وينساه تماما حين يطالب المجتمع بحقه فى الحرية. لكن مصر تغيرت فعلا، من قال إنها لم تتغير، لم يكن من الممكن إلا الدفاع فى مواجهة سلطة. قبضتها غشيمة، ترتدى مسوح الأب الوصى. الثورة علّمت الشعب الخروج من حضانة السلطة، والتمرد على أشكال الوصاية الفارغة، وهذا بالضبط ما فعله علاء عبد الفتاح. علاء قرر الهجوم ورفض الامتثال لمحاكمات ليست قانونية، رغم أن التحقيق كان غالبا سيؤدى إلى لا شىء. الرسالة قوية وكاشفة، وعطلت خطة أكبر فى التغطية على مذبحة ماسبيرو وجناتها الحقيقيين، باتهام الثوار والنشطاء، وتحويلهم من مدافعين عن التغيير إلى متهمين بإثارة الفتن والتحريض على العنف. ليس صدفة اتهام علاء عبد الفتاح وغيره من ثوار ما زالوا يصرون على استكمال الثورة باتهامات متهالكة، مصورة من شخصيات ظهورها ولمعانها مريب، ومقالات مكتوبة فى صحف تابعة لأحزاب يصر المتحكمون فيها على تأجيرها لأى سلطة... من مبارك إلى المجلس. هذا فى وقت لا يتم الالتفات فيه إلى عشرات من الأدلة الموثقة بالصوت والصورة والشهادات المباشرة وتدين جهات وشخصيات بعينها. ليس هذا فقط، بل تجرى التحقيقات بعد طمس الأدلة، وتغيير مسرح الجريمة. وليس صدفة هنا وضع اسم مينا دانيال على قائمة المتهمين بعد أن أصبح عنوانا من عناوين المذبحة وإدانتها، وجسرا بين الثوار والنشطاء وبين قطاعات من المجتمع بعيدة عن السياسة... هذه الرغبة فى تكسير أو تحطيم أو تشويه كل القيم التى تصنع فى الشارع وعبر قوى جديدة فى المجتمع، هى أداة من أدوات التسلط، التى تريد سحب ثقة المجتمع فى نفسه، ليظل أسير تصوراتها وصكوكها الوطنية. المجلس يريد عودة السياسة إلى مشاوير بين السجن والمشرحة، وهذه تعلمها من مبارك الذى أنهك معارضيه بين التحقيقات وسيارات الإسعاف. يتصور المجلس أن القوى الشابة لثورة ستستهلك فى المطالبة بالإفراج عن علاء بينما تنسى المطالبات بنهاية حكم العسكر، أداة أخرى تعلموها من مبارك وسلالته من الطغاة المغرمين بالبيروقراطية. تحويل الحرية إلى مطلب بعد الثورة عبث، لأن الأرض المحررة لن تحتل مرة أخرى، إلا فى أوهام السلطة. الثورة حررت المجال السياسى وانتهى الأمر، ورغم الإصرار على إعادة إنتاج جمهورية التسلط من خلال التحكم فى سير العملية السياسية بنفس آليات مبارك، فإن المجال السياسى أصبح أرحب وأوسع، والحلم بمصر جديدة ما زال يتجول فى الشوارع، رغم المجلس وبقايا النظام وعشاق المتطوعين بتقديم خدمات لأى مستبد. ما زالت هناك مجموعات تسهر الليل لكى لا يكون السجين وحيدا.. هتف الثوار تحت زنزانة علاء.. وصفق السجناء... وهذه لقطات لا تمر بخيال السلطة.. لكن هذا النوع من الخيال أسقط مبارك وسيسقط أصناما كثيرة فى الطريق إلى مصر جديدة.. علاء.. مساء الخير... وترى الشمس معنا قريبا خارج الزنزانة...