العدالة والقانون الوضعى والبشر المنوط بهم تنفيذ القانون هى المحاور التى رأينا خلالها فيلم «عمر قتلنى» الحائز على جائزتى أفضل مخرج رشدى زيم، وأفضل ممثل سامى بوجيلا، فى مهرجان الدوحة ترايبكا. لا شك أن صورة العدالة التى نرمز لها بامرأة معصوبة العينين تمسك بميزان هى الهدف الأسمى لكل من يرنو إلى تحقيق العالم المثالى على الأرض، إلا أن الواقع يؤكد أن تلك العدالة ليست معصوبة العينين تماما، ولكنها أحيانا تنتقى وتختار، فهى تبدو وكأنها حلم بعيد المنال ونحن فى نهاية الأمر أسرى لأفكارنا!! التقط الفنان الفرنسى المغربى الأصل رشدى زيم، الذى أصبح واحدا من أشهر النجوم فى السينما الفرنسية قضية لا تزال تنظرها حتى الآن المحاكم الفرنسية رغم مضى 20 عاما على تداولها قضائيا، عن البستانى الذى أدين بجريمة قتل سيدة ثرية كان يعمل عندها.. لم يتقيد المخرج دراميا ولا فكريا بتلك القضية، اتسعت الرؤية لتتحقق له نظرة أبعد يطل منها على العالم كله لينتقل إلى نظرة المجتمع الفرنسى أو الغربى بوجه عام للعربى أو للمهاجر الغريب، وذلك من خلال القانون الذى يتحرك وفقا للأهواء، وهكذا أدين البستانى المغربى الأصل بسبب نظرة قاصرة فى تفسير القانون. كيف نحاكم الآخر.. القانون الذى يطبق على الجميع واحد، ولكن تتعدد زاوية الرؤية، بل قد تتناقض أيضا.. إنه يضع حدا فاصلا مع الأسف بين المواطن الذى ينتمى «جينيا» -إن صح التعبير- للبلد وبين من انتقل إليه حتى لو حمل جنسيته مثل بطل الفيلم الذى أدى دوره سامى بوجيلا، وهو إلى الجيل للجيل الثانى من المهاجرين ويعمل بستانيا، حيث تعلم تلك الحرفة عن والده، إلا أنه لا يقرأ ولا يكتب، يستطيع فقط التحدث قليلا بالفرنسية.. الجريمة ليست هى القضية الأساسية ولا أتصورها تشكل المحور الرئيسى ولكنها تكئة يطل منها الفيلم على الواقع الذى يحياه المغتربون فى أوروبا. القانون فى العالم كله لديه قاعدة مستقرة، وهى أن الشك يفسر لصالح المتهم، صحيح أن بناء الفيلم فى النهاية يقودنا إلى الاقتناع لا اليقين ببراءة البطل العربى المسلم، ولكن تبقى ظلال الشك قائمة، إلا أن الأهم هو أن رسالة الفيلم لم تكن فى البحث عن براءة البطل ولا للوصول إلى الفاعل الأصلى لجريمة القتل، بقدر ما هى إدانة ازدواجية تطبيق القانون. القضية على أرض الواقع لم تحسم، فلقد حصل البطل قبل أكثر من عشر سنوات بعد تدخل سياسى على الإفراج، لكنه لم يحصل على البراءة، فهو لا يزال متهما فى عرف القانون الذى انتفت عنه العدالة فى بلد كان ملهما بل ومصدر للقوانين للعالم أجمع. لا يستطيع أحد أن يجزم بأن عمر البستانى المغربى الذى لا يقرأ ولا يكتب قتل تلك المرأة الثرية التى أحبها، ولكنها كتبت اسمه بدمائها على المرآة بعد الجريمة، وهى تلفظ أنفاسها الأخيرة.. هل هناك من دبر بذكاء تلك الجريمة ليورط عمر.. كل التفاصيل الدقيقة بعد ذلك تؤكد أن عمر لم يقتل، والقضاء وهيئة المحلفين كانت إدانتهم جاهزة قبل أن يمتلكوا أدلة الإدانة، وتلك هى المعضلة الكبرى فى هذا الفيلم!! المجتمع الفرنسى لا يحمل كراهية مطلقة فى التعامل مع الآخر، وهكذا ظلت شخصية الصحفى الفرنسى الذى يؤمن ببراءة عمر تهيمن على المشهد السينمائى، ولها حضورها الدرامى وأيضا الفكرى، وأصدر كتابا يحمل اسم «عمر»، إلا أن البطل الأمى كان عاجزا عن قراءته. داخل هيئة المحكمة، حيث يدور العديد من المشاهد السينمائية قدم المخرج رشدى زيم حالة من الألق الإبداعى بكاميرا مدير التصوير جيروم اليرماس، كذلك كان للموسيقى دور البطولة فى هذا العمل الفنى التى وضعها ألكسندر إزازيا، كذلك لعب بوجيلا دورا مؤثرا برع فيه بعد فيلميه الجزائريين «أيام المجد» و«خارج عن القانون» للمخرج رشيد بوشارب.. نرى رشدى زيم مخرجا متمكنا يملك إيقاعا خاصا يقدم المعلومة السينمائية بتفاصيل صغيرة لتتجمع بداخلك شيئا فشيئا بعد ذلك الصورة كاملة. «القانون فى مصر لا يعرف زينب».. عبارة شهيرة ساخرة أطلقها قبل نصف القرن فؤاد المهندس فى مسرحية «أنا وهو وهى»، إلا أنه فى فرنسا يعرف زينب وأخواتها أيضا!!