عيال الفيسبوك» المقولة الشائعة التى يصف بها النظام السابق والمتشككون فى الثورة والخاسرون منها الثوار الشباب، من أكثر المقولات المنتشرة خطأ وإجحافا. والطريف أن سن الشباب تمتد فى التصنيفات العلمية والدولية حتى نصف العقد الثانى أو نهايته بحد أقصى لتعقبه مرحلة النضج، ولكننا فى مصر نمد مرحلة الشباب حتى ما دون الخمسين مستندين فى ذلك إلى مقياس مبتكر وهو عدد الشعيرات البيضاء التى غزت رأس الإنسان، لنجد أن «العيال الثائرة» التى تظهر فى الإعلام منهم إلى جانب الشباب فعليا أيضا قطاع كبير من الناضجين ومنهم أزواج وزوجات وآباء وأمهات يتحملن مسؤولية أسرهم، وبالتأكيد ليسوا عيالا يستمتعون بالتظاهر والاعتصام فى مطر الشتاء وشمس الصيف. الثابت أن المصريين من المرحلة العمرية التى تمتد من 15 حتى 40 عاما، وهم الأغلبية، عانوا تهميشهم لفترات طويلة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو التهميش الذى لم يشعر به متخذو القرار مكتفين بإلقاء اللوم على الشباب أنفسهم بحجة أنهم غير ناضجين ولا يشاركون سياسيا على النهج الموضوع وعبر القنوات التقليدية للمشاركة كالانتخابات وغيرها، رغم أن عدم المشاركة رسالة صامتة ذات مغزى ما تعبر عن عدم الرغبة فى دخول المعترك السياسى فى ظل قواعد مجحفة، وأخطأ النظام حين تجاهل استخدام بعض الشباب مواقع الشبكات الاجتماعية مثل الفيسبوك لتنظيم أنفسهم وذلك اقتناعا منه بسياسة القبضة الأمنية الحديدية وأن «كله تمام يا ريس»، ولعل من أبرز الأدلة على هذا الاستخفاف رد جمال مبارك على سؤال فى مؤتمر صحفى حول احتواء الحزب الوطنى المنحل هؤلاء الشباب، فجاءت المقولة الساخرة الشهيرة «رد عليه إنت يا حسين». إضافة لما سبق تقوم عبارة «عيال التحرير» على مغالطة مزدوجة، فهى توحى أولا بأن الشباب وحدهم قاموا بالثورة مما يغفل دور المصريين والمصريات من غير الشباب الذين مهدوا للثورة بل وشاركوا بالفعل فى أيامها الأولى، أما المغالطة الثانية فهى الربط التعسفى بين العمر وغيره من المميزات كالذكاء أو البصيرة أو الفضيلة، وهو انطباع خاطئ للأسف، فما زالت الصورة السلبية عن الشباب باعتبارهم طائشين وفاضيين ومحبطين تلاحقهم على الرغم من أنهم أثبتوا أن لديهم من الانتماء والوعى والنخوة والنزعة المثالية ما يؤهلهم لصنع البطولات، والدليل على ذلك تفجر طاقات الإبداع والعمل التطوعى لدى قطاعات واسعة من الشباب ينظمون أنفسهم ذاتيا فى مبادرات غير هادفة للربح إيمانا منهم بمبادئهم بعد تنحى مبارك. تتضمن السلطوية معانى مثل تركز القرار والانفراد به وعدم الاعتناء بمن يختلف فى الرأى، وبالتالى هى ليست حكرا على الحياة السياسية فحسب، بل تعكس العلاقات والشبكات الاجتماعية أيضا سلطوية مشبوبة باستعلاء تتغلغل فى قطاع التعليم، حيث تسوده سياسة التعليم بالتخويف إما بشتائم من عينة «ماذا تعرفون يا بقر؟» أو «هاسقطكم كلكم» (عبارات سمعناها جميعا). أو أفعال تتعدى العنف اللفظى لتتحول إلى إيذاء بدنى ظنا أن هذا أفضل أسلوب تربوى ممكن (ولعلنا نتذكر مدير الحضانة الذى تظاهر أولياء الأمور من أجل إطلاق سراحه ليستمر فى سياسته التربوية القائمة على الضرب). وتظهر السلطوية فى قطاع الصحة مثل مقولة «إنت إيش فهمك، هنعرف أحسن من الدكتور؟». وتزيد فى القطاع الحكومى بالذات مثل إدراك الموظف سلطته وفرضه ما يراه هو صوابا مثل مقولة «إنت هتعرفنى شغلى يا أستاذ؟»، وغنى عن الذكر سلطوية الشرطة، حتى عندما يذهب المواطن ليبلغ عن سرقة يتعرض لممارسات سلطوية من خشونة فى التعامل وعدم السماح برؤى مغايرة. ومن هنا تنم مقولة «عيال الفيسبوك» أو «عيال التحرير» حاليا عن جوهر الصراع القائم بين قيمة السلطوية وقيمتى الحرية والمساواة، وذلك فى مجتمع يميل لاحترام الكبير وتبجيله (وهو شىء محمود) ولكن الاحترام شىء والاستبداد نتيجة فارق العمر أو المنصب شىء آخر، فالسؤال الاستنكارى العفوى مثل «كيف يجرؤ الأصغر سنا على تحدى الأكبر سنا أو الاختلاف معه؟» لا يعبر عن فجوة أجيال فحسب، بل عن تصورات اجتماعية مسبقة عن مفهوم الأدب والاحترام يلخصها البعض فى عدم انتقاد الأكبر سنا حتى وإن كان النقد محترما وموضوعيا. ما زال البعض لا يستسيغ ثورة جيل نشأ على برنامج «بقلظ» ليس فقط لتداعياتها السياسية، بل لأن الثورة على السلطوية بتحديها الخوف تهدم افتراضات راسخة فى أذهان كثيرين، ومن المتوقع أن لا يسفر المخاض طويل الأمد عن ولادة نظام سياسى أكثر عدالة فحسب، بل أيضا عن إعادة صياغة للثقافة السياسية السائدة كذلك، باعتبارها مجموع القيم والتوجهات السائدة، ليصبح المجتمع أقل تقبلا لفكرة السلطوية الرأسية من الأكبر سنا والأعلى شأنا والأكثر نفوذا، ويكون أكثر قبولا لنمط أفقى عادل تسوده فقط سلطة العقل والمصلحة العامة. نعرف الطريق، لكن ما زال المشوار طويلا.