ابنا الرئيس السابق سيكونان أول المتضررين من غيابه. على الرغم من فقدانه السلطة المباشرة، فإن مجرد وجوده ظل سلطة معنوية، كونه القائد الأعلى السابق للقوات المسلحة، وأحد قادة حرب أكتوبر، وكونه «الرئيس الأخير» حتى الآن. بعد ثلاثين سنة فى الحكم لا بد أن له أيادى بيضاء على كثير من المتنفذين، كما أنه على صلة «شخصية» بزعماء فى دول الجوار. كل ذلك سيختفى فى غمضة عين، ولن يبقى منه إلا «الوفاء للذكرى»، وهى فضيلة فى العلاقات الإنسانية، إنما نادرة جدا فى عالم السياسة. هذه السلطة المعنوية تتجلى فى أوضح صورها فى علاقة الرئيس بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة. أعضاؤه الحاليون عينوا بقرارات منه، ورئيس المجلس عمل معه وزيرا لأكثر من عشرين عاما، ناهيك بعلاقته المهنية والشخصية المباشرة مع بعضهم، بوصفه قائدا سابقا للقوات الجوية. وجود مبارك ألزم المجلس بالحفاظ على التوازن الدقيق بين الاستجابة للضغط الشعبى، والحفاظ على «هيبة» رئيسهم السابق وأفراد عائلته. وغياب الرئيس سيحرر أعضاء المجلس من هذا الوضع العسير، وقد يؤدى إلى «تحرير» بعض المعلومات عن قضية قتل المتظاهرين. لا لإدانته، فقد نال صك البراءة من قبل فى شهادة المشير حسين طنطاوى أمام المحكمة، وإنما للكشف عن أدوار مباشرة لبطانته فى القضية، وربما لأقرب المقربين إليه، دون الخوف من أن ترتد الاتهامات أو تمتد لتطاله وتدينه. مصر خبيرة فى التطوع ب«تحرير» المعلومات بعد غياب الرؤساء، حتى دون انتظار مقابل سياسى، فما بالك والمقابل السياسى الآن موجود، سواء لتهدئة الشارع، أو للحصول على حظوة لدى قطاعات من الناخبين المصريين خلال انتخابات الرئاسة. والحديث عن انتخابات الرئاسة يقودنا إلى الفريق أحمد شفيق الذى أعلن، وليس ذلك مصادفة، عن نيته الترشح لها فى نفس يوم شيوع الأخبار عن تدهور صحة الرئيس السابق. هذا الإعلان «المتعجل» يعكس أزمة ليست سهلة لدى تيار «إحنا آسفين يا ريس». لا تستهينوا بكون المتحدثين باسم التيار والمشاركين فى فعالياته قلة قليلة محدودة الإمكانات الذهنية وفقيرة الإبداع، فهذا التيار ستار مهلهل على نافذة بيت معبأ بالسلطة والمال. كل المستفيدين داخليا وخارجيا من رجال أعمال وإعلاميين وسياسيين وأجهزة مخابرات يختبئون خلفه. الأزمة بالطبع هى غياب الزعيم مبكرا، غياب الوجه الذى يجمع هذا التيار وداعميه حوله. والحل، على ما أعتقد، كان التعجيل بإبراز الوريث الجديد الذى شارك فى حروب و«قتل وانقتل»، فى توقيت غير مبرر على الإطلاق لو استثنينا هذا الاحتمال (لاحظ أن مرشحين آخرين يعلقون حملاتهم الانتخابية). أحمد شفيق مرشح مثالى مستوفى الشروط بالنسبة للمؤسسة العسكرية بسبب ارتباطه بها واستيفائه شروط الترشح، لكن ثمة سببا آخر يجعل أحمد شفيق الشخص المثالى تماما لجماعة المتنفذين أيضا. لقد كان رئيس الوزراء يوم موقعة الجمل، أى أن مسؤوليته السياسية عنها مسؤولية مباشرة لا تخطئها عين. وموقعة الجمل هى أخطر القضايا التى تواجه رموز النظام القديم من سياسيين ورجال أعمال، وهم يريدون حال غياب الرئيس شخصا يثقون مئة بالمئة أنه لن يضحى بهم فى القضية. يريدون شخصا يداه مكبلة إلى أيديهم وعنقه مربوط إلى أعناقهم. لكن تأييدهم هذا أحد حدى السلاح، الحد الآخر أن قضية صلته بالرئيس السابق لن تتوقف من الآن عن ملاحقته، وسيكون هدفا، ليس فقط لانتقادات معارضيه، بل لتسريبات الحاسدين من رفاقه، الذين سيشجعهم غياب الرئيس على الضرب فيه بقلب ميت. هذا يجعلنى، على غير ما يبدو ظاهرا، أضع أحمد شفيق فى المركز الثانى مباشرة فى قائمة المتضررين من غياب «مبكر» لمبارك قبل أن يبرئه القضاء، فيسمح للسياسيين بإطفاء النار على «الطبخة». ترشح شفيق الآن سيضعه شخصيا على النار وسيطيل فترة وجوده عليها، ولو «شاط» كما شاط من قبل رئيسا للوزراء سيستبدل بوجه طازج وجديد. الغياب المبكر للرئيس، والبروز المبكر لأحمد شفيق، سينهك الثانى أيما إنهاك، وسيجعله بحلول الانتخابات الرئاسية لا أكثر من مصفاة أتربة أولى لفلتر النظام، لا بد من تغييره إن أراد أن يثبت قدرته على البدء من جديد «على ميه بيضة».