في تقييمها لصوت صاعد بداية السبعينيات، هدد عرش عبد الحليم حافظ، قالت تحية كاريوكا، ساخرة: «هذا المطرب مثل الجنس الحلال.. لا طعم له».. لم تقصد كاريوكا بتعبيرها الفج الترويج للخطيئة، لكنها أرادت الإشارة إلى خلو المطرب من المغامرة، استخدمت الجنس كمعادل موضوعي للحياة، فدائما التمرد وتبني الرؤى الصادمة والجديدة أشياء تبقى طويلا، بينما تنزلق الاعتيادية إلى الخارج.. كأنها روث الذاكرة.. كان المطرب في نظر الراقصة الشهيرة مجرد صوت جميل ينبع من وجه وسيم.. نجم على المازورة منزوع الدسم، لا يضيف إلى اعتياديته أي «ديفو» يزيد من روعته، ومن هنا سيظل في المنطقة الوسطى، يفتقد دراما عبد الحليم الإنسانية.. أو حتى قبح ألحان أحمد عدوية وسوقية كلماته وقتها.. وبعض القبح جمال كما قال الراحل أحمد بهاء الدين. الجنس الحرام في أحيان كثيرة معادل للتمرد، يستمتع الإنسان بشعور زائف بالخطيئة، لعلنا نتذكر قول بشار بن برد لزوجته وقد علمت أنه اتفق مع جارية ليضاجعها فنامت مكانها.. فلما انتهى الأمر وعرف بشار بالحيلة قال لها «ما أبغضك حلالا وأحلاك حراما». في السياسة على عكس الفن، يتخذ كسر الاعتيادية ملامح عديدة، منها الكاريزما، وهي في تعريفها البدائي الذي وضعه ماكس فيبر «منحة إلهية».. مجموعة من الصفات الشخصية قادرة على إلهام الجماهير.. صوتا أو شخصية أو لغة للجسد.. بعد عقود تبلورت الظاهرة علميا، تطلب الحكم الكاريزمي مجموعة من الشروط كي يؤثر ويلهم، منها وجود أزمة، وإطار ثقافي مغاير، وأتباع يؤيدون القائد، والأخير بدوره يملك مهارات التأثير. كسر الاعتياد قادة كثيرون ملهمون.. تحتفظ ذاكرة الشعوب -إلى الآن- بأسماء عبد الناصر ولومومبا ومهاتير محمد.. لكن اليوم نستطيع القول إن العصر الكاريزمي انتهى.. لم يعد أحد على استعداد أن ينحني لقائد ماهر في الخطابة والتأثير ويضحي بحريته وأمنه ومعيشته، بات يسأل عن البرنامج أولا.. الخيال والحلول غير العادية.. ومن هنا لم يستطع مثلا عمرو موسى أن يسحر المصريين الآن.. رخامة الصوت والخطابة والتلاعب الألفاظ لم تعد تكفي.. تريد الشعوب أفكارا غير معتادة، أصحاب رؤى جديدة وقدرة على الخيال. في الغرب تحولت المهارة الكاريزمية إلى صناعة.. يتعلم السياسي كيف يتكلم ويخطب ويؤثر. آل جور مثلا وقت ترشحه للرئاسة استعان بخبيرة اسمها ناعومي وولف تعلمه كيف يخاطب النساء.. لكنه فشل أمام بوش.. حتى أوباما وهو الملهم الخطيب البليغ، لم ينجح بسبب هذه المهارات.. وجود المهارات أساسي لكن مع كثرة الكاريزميين المصنوعين بات الأمر اعتياديا هو الآخر.. أوباما نجح بفعل رؤية وخيال يعد الأمريكان بازدهار اقتصادي وتوافق عرقي. في مصر تفتقد السلطة الجديدة، الكاريزما وثورية الرؤى معا.. ومن قبلهما، الإيمان بأن ما جرى في يناير ثورة حقيقية، والثورة في أبسط تعريفاتها تعني التمرد على الجمود والذبول.. لا يوجد أحد اليوم على استعداد للتعامل مع سياسيين عاديين.. الذاكرة لن تسعفها شخصيات سياسية باهتة، تؤدي عملها بمنطق الروتين الحكومي، وموظف القطاع العام. في مصر خلال أشهر بسيطة تغيرت أسماء الوزراء، في الثقافة جلس جابر عصفور ومحمد الصاوي على كرسيها ساعات ثم تبعهما عماد أبو غازي، ولم تشعر أن فاروق حسني غادر منصبه، وفي السياحة جلس معارض باهت اسمه منير فخري عبد النور في مكانه والحصيلة صفرية.. صحيح أن ظروف عدم الاستقرار الثوري منعت السياحة.. لكننا لم نجد في الأفق خططا بديلة تقفز بالأعداد على غرار تركيا.. الوعد الوحيد الثوري كان عبر عبد المنعم أبو الفتوح الذي قال إنه سيجلب 200 مليون سائح في حال نجاحه رئيسا. عادية الاختيار تمتد إلى شخصيات عديدة.. فأسامة هيكل، على سبيل المثال، لم يشعر أحد بأنه هاجم الثورة قبل اشتعالها بساعات إلا بعد توليه وزارة الإعلام.. ولو كان مدحها لم نكن سنعلم أيضا.. لأنه مارس الكتابة بتوازنات الموظف عند السيد البدوي، فخرجت بلا طعم. لكن من اختاره اختار المحرر العسكري السابق.. والعسكرية جوهرها الطاعة، وخلع لباس الثورة. لمحة الثورية الوحيدة كانت في أداء نبيل العربي، فتح آفاقا للدبلوماسية المصرية في إفريقيا، وعد بعلاقات طبيعية مع إيران، أنجز اتفاقا تجمد بعد ذلك بين فتح وحماس. لكن الرجل الخالي من الكاريزما، صاحب الرؤية، فاجأنا بزيارة إلى دمشق تعزز من موقف ديكتاتور يقتل شعبه، فبات الثائر المتمرد خادما للطغاة بعد انتقاله من مكتبه على نيل القاهرة إلى آخر في مبنى جامعة الدول.. سبقت مفاجأة العربي مقدمات عديدة.. منها ترشيحه مصطفى الفقي أمينا لجامعة الدول قبل أن يتولى هو (العربي) المنصب بعد رفض دول عربية. أداء السلطة في مصر يناسب «عادية» تسيير الأعمال ولا تقترب رؤاه أو شخصياته أو خياله من «تمرد» الثورة.. شخصيات باهتة.. أو تابعة ورؤى تتماس مع (حكمة) الرئيس المخلوع.. والحصيلة أن طعم الثورة ضائع.. يتلاشى كما تلاشى منافس عبد الحليم حافظ وهو ما تنبأت به كاريوكا.