قد يبدو غريبًا إنّي في وسط كُل الأحداث اللي بتجري في مصر الأيّام دي أكتب عن حاجة برّاها، بس أنا مش شايفُه «غريبًا» ولا حاجة، أولًا لإنّي شايفُه مش برّاها وثانيا لإني برّاها فعًلا! أنا في مالطا دلوقتي بَحضَر برنامج عن حقوق الإنسان في جامعة مالطا، إحنا 17 واحد من 15 دولة، عندها كلّها يا إمّا تاريخ مهم فيما يتعلّق بالمحاربة للحصول علي حقوق الإنسان أو بلاد زي حالاتنا كده يا دوب لسه بتتعلّم ازّاي تقدر تجيب لذلك الإنسان حقوقه المُغتصب أغلبها علي أراضيها من كثير مِنَ السنوات. اتكلّمنا كتير أنا وزمايلي والأساتذة اللي بيدّونا محاضرات في مسألة عنف جهاز الشرطة وأساليب إعادة تأهيل أفراده، وإتعرّفت من ضمن ما تعرّفت عليه في وسط الحوارات دي علي تجربة عمرها السنادي 40 سنة حصلت في جامعة ستانفورد في أمريكا سنة 1971. فيليب زيمباردو أستاذ قسم علم النفس كان عايز يُجري تجربة علي تأثير السُلطة وبالتبعية القُوّة اللي بتيجي معاها علي نفسية من أخذ في يده تلك القوة والسلطة والنفوذ. التجربة كانت إنّهم حيلعبوا عسكر وحرامية بس بشكل دراماتيكي شويّتين. من 75 طالب تطوّعوا لأداء التجربة إختار زيمباردو 24 من الأكثر إستقرارًا نفسيا! قسّموا الطلبة نُصّين بشكل عشوائي؛ نُص يمثّل إنه حُرّاس والنص التاني يمثّل إنّهم مساجين. إستعانوا بقوّات الشرطة المحلية في إنّهم يقبضوا علي المساجين بنفس الطريقة وباتّباع كل اللي بيحصل في الواقع. حطّوهم كُلّهم في سجن صناعي جوة الجامعة وادّوا الحُرّاس سُلطات مطلقة للسيطرة علي المساجين، بل وتوجيهات باستعمال العُنف لو حصلت أي مقاومة، بل وكمان سُمِح للحراس إنهم يعذّبوا المساجين «من زمايلهم» لو تطلّب الأمر عقابهم! الحُرّاس كانوا لابسين لبس عسكر ومعاهم أسلحة خفيفة من عصيان وغيرها، والمساجين مُكبّلةً أرجُلهم، ولابسين نضارات شمس عاكسة عشان مايبقاش فيه إتصال بالعين بين الحُرّاس وبينهم، إتفتشوا ذاتيًا، اترَش عليهم قاتل القمل! وعاملهم الحرّاس بقسوة بدأت علي خفيف وبعدين تطوّرت بسرعة. بعد 36 ساعة من بداية التجربة واحد من المساجين جتله حالة هستيرية، بس ماقرّرش زيماردو يخلّيه يسيب التجربة فعلًا غير لمّا اقتنع إنّه حصلّه إضطراب نفسي حقيقي. بعد وقت قصيّر الطالب ده ومعاه أربعة آخرين من الطلبة اللي بيلعبوا دور المساجين، انزعجوا جدًا من اللي بيحصل من تمادي الحُرّاس في استعمال العنف وقرّروا انّهم مايكمّلوش، ومن الغرائب الحقيقة ان الباقي دخلوا في حالة سلبية ورضخوا تمامًا لسلطة الحُرّاس. ومن الغرائب كمان إن زيمباردو نَفسُه، فضوله كباحث وعالِم خلّاه يتجاهل دوره كأستاذ وساب التجربة تكمّل بالرغم من إن العنف كان بدأ ياخُد صورة شر حقيقي. التجربة دي كانت المفروض تستمر لمدة أسبوعين، لكن بعد 6 ايّام بس تَقَرّر إنهاءها لإن الحُرّاس -بعد ست ايام بس- أظهروا علامات خطيرة لتأثّرهم بشكل سلبي بقدرتهم علي إيذاء الآخرين كما يحلو لهم. وخلّوا بالكو كويّس إن دول ماكانوش ولاد عايشين في بيئة عنيفة، ولا كانوا بيتضربوا بتوكة الحزام وهم صغيّرين ولا حاجة! بل دول طلبة ستانفورد شخصيّا، واحدة من أشهر وأهم جامعات أمريكا والعالم! وماكانوش مرضي نفسيين ولا حاجة بل كانوا الأكثر إستقرارًا علي المستوي النفسي من كُل المُتقدّمين. بالرغم من إن التجربة ماكمْلتش إلّا إنّها إدت زيمباردو دليل مُهم علي إن الشر –والخير كمان بالتبعية- البني آدم ممكن يتعلّمهُم، لمّا يتحط في الظرف المناسب اللي بيهيّأ بيئة تسمح بذلك التعلّم. لحد دلوقتي وبعد 40 سنة من تجربة زيمباردو لسه فيه جدل قائم حول نتائجها لكن بعيدًا عن التفاصيل؛ بعد ما قريتو الكلام ده، إرجعوا بَقَه لمسالة ظبّاط الداخليّة بتوعنا، مش بتوع التعذيب بس، لأ كمان كُل من كان فيهم بيشتغل في مواقع في الوزارة بتعرّضهُم بما لا يدع مجالًا للشك، لعملية منظّمة ومُمنهجة لتعلُّم الشر. زيمباردو شاف إن التأثير النفسي للسجن في ظروف سيئة بتَنعكس علي حُرّاس السجن زي بالظبط ما بتَنعكس علي المساجين، بشكل مختلف طبعًا لكن بيَبقي العامل المُشترك إن السجن القاسي بيُفسد شيء مهم في نفس كل من تُحيط بهم أسواره. دلوقتي بقه وسّعوا العدسة أكتر كمان. أنا شخصيًّا لمّا عملت كده شُفت صورة أوضح لقوة الشر تلك، اللي بنقاومها دلوقتي واحنا بنحاول نبني وطننا الجديد. مش بمنطق تعاطف مع أولئك السجّانين الكتير أوي اللي ملوا حياة مصر في السنين الطوال الأخيرة بل أولًا بمنطق محاولة فَهم للّي حصلّهم فعلًا، إزاي تحوّلوا إلى أشرار أو أنايين أو قصيري النظر أو جُهلاء أو كُل ما سبق؛ والنتيجة السهلة جدا إنهم بقوا كده عشان إتعلّموا يبقوا كده، عشان عاشوا في نظام علّمهم يبقوا كده. ودي حاجة مُطمئنة بالنسبالي، مُطمئنة عشان بتقول إننا نقدر تاني نستبدل تلك الشرور اللي إتخلقت في أنفسهم، لمّا نخلق نظام يساعدهم انّهم يتغيّروا (وإن كان زيمباردو بيُشير إلى إن تعلّم الخير بيبقي أصعب بكتير بعد ما البني آدم يتعلّم الشر) وثانيا وهو الأهم عشان نتعلّم مانكرّرش نفس الأخطاء، عشان نتعلّم مانحمّلش حَد أكثر ممّا يطيق. عشان نتعلّم نبني دولة يبقي فيها الجميع تحت رقابة دائمة. تحت رقابة الجميع، رقابة تحمي كل الناس من بعض، وتحمي كل الناس من أنفُسهم. اللي جوّة سور السجن كلّهم ضحايا، المسجون والسجّان، واللي برّه أسوار السجن هُمُ الأحرار. مش عايزين سجن ولا معتقل ولا سجّانين أشرار، عايزين وطن.