الحقيقة أنك حققت المستحيل.. حطمت حاجز الخوف.. انتصرت لكرامتك.. واسترددت حريتك.. نعم أنت الآن مرفوع الرأس، وإني مطمئن وواثق أنك لن تترك أولي الأمر المؤقتين في مجلسهم الأعلى إلا مؤقتا، وأنك لن ترضى بديلا عن دستور تضعه بنفسك يحول بينك وبين السافر والسلفي والسفيه.. لكن ماذا بعد ذلك؟ ماذا بعد أن نلت حريتك وكرامتك ودولتك المدنية ودستورك الحامي العادل؟ يعني إنت كدة تمام؟! مرضي؟ ألا ترى أن حريتك وكرامتك تظل منقوصة ما لم تملك قوتك وتكتفي ذاتيا، بل تحقق فائضا؟ وما لم تعف عن الاقتراض لتستورد دقيق رغيفك وماشيتك ودواءك وسلاحك؟ فما الحرية إن لم تكن تملك حرية الاختيار من بين بدائل ما؟ أليست الحرية في أن لا تخضع لإجبار مستمر؟ كيف تكون حرا ما دام يستطيع العالم الخارجي تجويعك وتركيعك إن خالفت إرادته؟ وكرامتك؟ تظل كرامتك مزعومة بل مهدرة ما دام بلدك يعيش على المعونات الأمريكية والمنح الأجنبية وهبات الشيوخ. إن الكرامة لا تختزل في الحرية، والحرية لا تكتمل إلا باستقلالك الاقتصادي.. الكرامة والحرية والاعتزاز والغنى والعزة والفخر والغيرة على وطنك ومكانته هي حقا كلها معان متشابكة ومتلاحمة، لا تستطيع فصلها عن بعضها البعض. فالفخر بمصريتك والتباهي بها لا بد أن ينتقل طبيعيا من نشوة التحرر من أسر عبودية خمسين عاما، للسعي إلى أن يكون لك وطن يملك صناعة ضخمة وزراعة محترمة وشعبا يقدر قيمة العمل. وبما أنك أنت المصري، قد حققت المستحيل، لست أجزع على الإطلاق من بعبع السلفيين والسفليين، ولا من توغل الإخوان أو من نار فتنة طائفية. ولا أخشى فلول النظام أو استمراء الجيش للكرسي. إني على يقين وإيمان كامل أن ملايين المصريين العزل الذين حاربوا بأجسادهم جيوشا من الأمن المسلح الكافر (بآدمية شعبه) فهزموهم وأذلوهم وأنزلوهم الجحور رعبا، ثم وضعوا النظام الديكتاتوري السابق، عن بكرة أبيه، في السجون، في ظاهرة نتفرد بها في تاريخ الثورات، هذه الملايين ومعها ووراءها ملايين أخرى استيقظ فيها الوعي والطموح.. هؤلاء كفيلون بحماية وطنهم ودحر أي خطر حقيقي قد يسلبهم حريتهم أو كرامتهم مرة أخرى. إن التحدي الحقيقي الذي أمامنا يتمثل في كيف أن نتحول من حالة ثورة الميدان وحماسها إلى مرحلة الثورة الميدانية ومشروعها.. كيف لنا أن نحافظ على تلك الطاقة الهائلة الرائعة التي اكتشفناها بداخلنا حية هادرة، ونحيلها بذكاء إلى مشروعنا القومي الثاني، (بافتراض أن الأول تمثل في الحرية والكرامة). يكمن التحدي الحقيقي لأبناء المستحيل في إدراكهم المبكر لأهمية الالتفاف حول مشروع قومي واضح محدد يلهمهم أن يسمعوا أنشودتهم الجديدة في نهضة أمتهم. أن يهتفوا بنفس العشق والتفاني، أملا في أن تكون هناك سيارة مصرية، معدة بصناعة مصرية، أن يعود القطن المصري إلى سابق عهده، أن تعود صناعة السينما عملاقة كأحد أهم روافد الدخل القومي، أن يكون لدينا جرار وونش وساعة وعجلة وجهاز كمبيوتر، كلها مصنعة محليا. فلتنح قليلا المعنى الرومانسي للحرية والكرامة والفخر بمصريتك، وتنظر إليها بمعناها الأشمل، وعلى المدى الطويل، أن تكون كيانا اقتصاديا ضخما قويا، وأن تصبح لك قوة ناعمة تجعلك مستقلا وليس تابعا. نحن شعب حماسي، آفته قصر النفس.. الآن وأكثر من أي أوان سابق تشتد حاجتنا للالتفاف معا حول هدف واحد. على النخبة المثقفة والأحزاب السياسية والمجتمع المدني والقوى الوطنية، جنبا إلى جانب مجلس الوزراء، تعبئة كل الطاقات نحو تلك الأولوية، تحديد المشروع القومي وهيكله وأولوياته وأهدافه، في خطة خمسية محددة الخطوات والأزمنة. وهي أهداف يشترك في تحقيقها القطاع الخاص المصري بأدوار والتزامات بعينها، عندها فقط سيعرف مجلس الوزراء ومجلس الشعب القادم ما حزمة القوانين التجارية والاستثمارية والمصرفية والجمركية والضرائبية اللازم إصدارها، وغيرها التي ينبغي إلغاؤها، سيعرفون لمن ييسروا ولمن يعسروا. وتعدو أدوار جميع الأطراف (الدولة، الرأسمالية المصرية، المستثمر الأجنبي) واضحة، لكل طرف الصلاحيات والمسؤوليات اللازمة نحو تحقيق أهداف المشروع القومي. ما أكثر ما لدينا من أعظم وأقدر العقول الاقتصادية الفذة، نحن في حاجة ماسة إلى «مجلس أوصياء المشروع القومي المصري الجديد»، يستطيع عصام شرف أن يكون أكثر جرأة، ويشكل بنفسه هذا المجلس، وحتى لا ندخل في لماذا تم اختيار هذا الفلان، وترك ذلك العلان. الموضوع سهل، يتكون المجلس من الخبير الاقتصادي بكل من الأحزاب المشهرة، وتلك التي ما زالت تحت التأسيس، والاقتصاديين التكنوقراط من أساتذة الجامعات الناشطين والمهمومين بالعمل العام، وبعض رجال الأعمال، غير المختلف على وطنيتهم، (وأظن الناس كلها بانت). هذا المجلس وقت أن يخرج مشروعه القومي، وتصبح خطته الخمسية واضحة ساطعة، بآلياتها، وتوصياتها، يقوم بإعلانها في موتمر صحفي رسمي، يوضح فيه متى ستشعر كل فئة من فئات الشعب بنصيبها في النمو، وما لها وما عليها، لتصل لهذا النمو المشروط، وتنشر في الصحف المصرية