كان الهتاف التالى فى الكاتدرائية ولأول مرة: يسقط يسقط حكم العسكر. الهتاف الأول نداء إلى المسيح ووعد بالشهادة من أجله. الجديد هو الهتاف الثانى، الوعى الذى صنعه الألم، إنها ليست فتنة طائفية، لكنها فتنة المستبد، الذى يفشل حتى فى فرض الاستبداد. «إحنا الشعب الخط الأحمر» هزت الميادين عندما تحرك الوعى من نوم عميق كان يرى الحاكم هو الدولة والدولة هى الوطن ولا قيمة لأحد غير هؤلاء الجالسين فى شرفاتهم يأمرون ويوزعون المناصب ويعاقبون الخارجين، والأهم يرسمون ملامح وحدود المواطن الصالح. الشعب يعرف نفسه عبر هذه الجنازات والآلام التى تخرج عن سيطرة المجلس الحاكم، الذى لا يمتلك قدرات السيطرة. هل صنع المجلس الفوضى على طريقة الجنرالات القدامى ليذهب الشعب إليه ويتوسل: احمونا..! هل يريد أن يصنع جمهورية استبداد جديدة..؟ ربما تكون هذه رغبات أو غرائز موجودة فى المجلس، أو فى المجال الحيوى الذى يريد أن يعيد إنتاج مبارك فى طبعة أكثر نُبلا. لكن الفشل من نصيب هذه السيناريوهات جميعا، لأنها تحتاج إلى آلة قمع ضخمة جدا، وتحتاج أيضا إلى جهاز إعلامى فعال يصدقه الناس. والمجلس يفتقد آلة القمع العنيفة، كما أنه عندما حاول إعادة شحن جهاز إعلام مبارك، انفجر فى وجهه بفضيحة كادت تحرق البلد كله. هل المذيعة التى خرجت على الناس تعلن عن وفاة 3 جنود من الجيش برصاص حى من الأقباط كانت لديها معلومات أم توجيهات؟ أم أنها رأت فجأة فى لحظة شجاعة أنها قائدة فى حرب استعادة البلد من الثورة؟ المجلس يريدنا أن نقف عند لحظة يروى فيها ما حدث على أنه «حمى الثورة».. رواية تريد أن تلغى حقائق أخرى أولاها أن الثورة حررت المجلس من أَسْر نظام مبارك. أما أهم هذه الحقائق فهى أن المجلس غادر موقعه المتوازن ليصبح طرفا إلى درجة تورطه فى إطلاق رصاص على مواطنين عزل. .. نعم عزل، وأرجو أن لا تصر أجهزة التضليل على اختراع الأكاذيب المضحكة التى تزيد من عبثية الوضع فى مصر، فلا معنى مثلا لأن المدرعة القاتلة سُرقت أو أن الرصاص أُطلق من قناصة.. إلى آخر هذه الروايات الخرافية المفرطة فى سذاجتها أو فى تخيل أن جمهورها بلا ذكاء أو خبرة مع أكاذيب المستبد. مَن ورّط الجيش فى استخدام العنف بهذه الطريقة؟ هل كانت هناك خطة لإشاعة مزيد من الفوضى بعد تحريض المسلمين الطيبين من التليفزيون الحكومى؟ هل كان يريد المجلس تصوير الثورة على أنها أصابت الشعب بالجنون المفرط، وعلى الجميع اللجوء إلى الجنرالات العقلاء ليوفروا الأمن والحماية؟ أم أنها كانت مجموعة من الصُّدف الخارجة عن سيطرة المجلس بدأت بمحاولة سيطرة على المظاهرات بعنف خفيف، اعتادت فيه الشرطة العسكرية اصطياد المجموعات الصغيرة، لكنها فوجئت بالتداعيات التى أسقطت 25 ضحية لن تنساهم مصر أبدا لأنهم سقطوا برصاص الجيش المصرى، وهى جريمة لا تسقط بالتقادم، ولا بالروايات الكاذبة؟ المجلس إذن عليه أن يحاسب من أطلق الرصاص؟ وعليه أن يعيد تشغيل موقعه الأول بعد اكتشاف أن مواقعه الأخرى أدت بنا إلى الكوارث. عليه أن يسهم من جديد فى فتح الأفق السياسى الذى أغلقه، وعليه أن يفكك أجهزة النظام الاستبدادى فى الإعلام والأمن، وعليه أن لا يكرر خطايا المستبد، لأن ببساطة روح الثورة ما زالت تتجول، غاضبة، محبطة، لكنها تشحن قوتها ولن تقبل بالعودة إلى الديكتاتورية. فاتورة هذه العودة لن يقدر أحد على دفعها.