لا أدرى أين تتوارى الأبجدية، حين أكون، فى أشد حاجتى إليها؟ لماذا تختبئ الكلمات وراء ستائر غير مرئية حين تصبح الكتابة هى الفعل الوحيد، به، أقول لوطنى «أنا موجودة»؟ «أنا موجودة»، وشغف الزهو، يغنى «أنا من مصر».. أعايش تحولاتها الصعبة، وأتأمل صمودها الواعى، الذى لا يفرط فى مبدأ «السيادة للشعب»، افتخر برفضها للعنف، بمقاومتها السلمية المتحضرة، التى تواجه أعاصير، لا تعرف التحضر السلمى.. يشجينى صوتها المدوى بعد طول أزمنة الصمت والخوف والقمع وحظر الغناء. لا أدرى لماذا تعود ذاكرتى إلى ما سموه «محاكمة القرن»؟ ربما لأننى لم أتأملها بالقدر الكافى. توصلت إلى أن دلالات إنجاز ثورى مثل «محاكمة القرن» أهم بكثير، من المحاكمة ذاتها. إن القضبان الحديدية ليست مجرد جدار يفصل بين المتهمين من ناحية، وبين أصحاب الدفاع والمدعين بالحق المدنى ومراسلى وكالات الأنباء من ناحية أخرى. وإنما هى جدار يفصل بين شعبين: شعب مترهل منهك يائس تخلى عن وجوده وحقوقه، وشعب مولود وجديد يتحسس مكانه على خريطة الكون، شعب طازج عفوى لم ينتظر إجراءات الولادة، ولم يهتم باستشارة أصحاب البالطو الأبيض -وحسنا فعل- أتكون الولادة طبيعية تقليدية أم قيصرية؟ رفض الشعب الوليد أخذ مسكنات حتى يشعر بجمال الألم، حين يثمر «ثورة» يقذفها العقل السليم المكتمل، لا البطن الناقص المقطوع. قضبان حديدية، بكل حزم، تباعد بين «مصريين». «مصر» الخائفة من خيالها.. «مصر» الخادمة لرأسمال فاسد محلى وعالمى فى تحالف أكثر خطورة من مثلث برمودا. و«مصر» التى كسرت حواجز الخوف، واستقالت نهائيا من خدمة سماسرة الأوطان. كما أن مثل هذه المحاكمة توقف السيل المتدفق عن «هيبة الحاكم». وتعيد الكرامة الضائعة ل«هيبة الشعب». إن الحديث المتضخم عن هيبة الحكام وهيبة الدول، هو الذى يصنع الطغاة والمستبدين وأنظمة القمع والديكتاتورية. كم عانينا من هذا الحديث، حتى بعد قيام الثورة. دعونا نتكلم عن «هيبة الشعب» التى نسيناها والتى تبدأ فى التشكل من جديد، ونحن نتابع شيئا مثل «محاكمة القرن». إن الدولة تستمد قوتها واحترامها وهيبتها من قوة واحترام وهيبة شعبها لا العكس. هذا إذا كنا نتكلم عن الدولة الديمقراطية. سمعت البعض يدعو إلى ضرورة التوقف عن تضخيم إنجازات الثورة، مثل المحاكمات التى تحققت فى الشهور الماضية، والآن هو وقت البناء و المستقبل. وأنا أعترض، على هذا الرأى. أنا لا أضع حدودا تعسفية، تفصل بين الماضى والحاضر والمستقبل، إنها خيوط متشابكة ليس من الممكن وليس من المنطق عزلها بعضها عن بعض. إن تجزئة الزمن سببت الكثير من عدم الفهم لحركة التاريخ، كما أن الثورة ليست حدثا أو مجموعة من المظاهرات والهتافات والأحداث التى إذا تحققت يُسدَل الستار. إن الثورة عملية يومية ديناميكية تجرى فى عروقنا، كما تجرى على الطرقات وداخل المؤسسات وتحت قبة البرلمان وفى أثناء البناء للمستقبل الجديد. إن بناء الوطن الجديد ليس معناه فقط رفع الأجور، وتغيير المحافظين، وتبديل المجالس المحلية، وكتابة دستور جديد، وإجراء انتخابات حرة، وحظر الشعارات الدينية، ومحاكمة المتهمين، وحرية تكوين الأحزاب، وإلغاء قانون الطوارئ، واستقلال القضاء، وعدم حكم العسكر. هذا مفهوم ورثناه من أحزاب وجماعات غير ديمقراطية غير مُبدِعة صدئة وأحادية التفكير، ذكورية الثقافة. الثورة هى كل شىء فينا وحولنا. الثورة هى كل شىء نقوله ونفعله ونحلم به. الثورة لا تعرف مبادئ التقسيط والتجزئة. كيف يمكننا أن نقسط الحرية؟ كيف يمكن أن نتناول الكرامة بالتجزئة؟ كيف للعدالة أن تكون عادلة، وهى تسير حسب إرشادات الأطباء «كل يوم نقطة»؟ يتصور الكثيرون من النساء والرجال بناء على هذا أنه لا توجد أى علاقة بين الديمقراطية فى «الوطن»، والديمقراطية فى «البيت». وهذا تصور ليس فقط خاطئا، ولكنه ضد العدالة وضد القيم الثورية الحقيقية. إن البيوت المؤسسة على التسلط الذكورى، وعلى أن الرجل هو المؤهل فقط لتحديد مصير الزوجة والأطفال والأسرة، وأن الطاعة فضيلة ومن حقه الطبيعى على الزوجة والأطفال.. بيوت لا يمكن أن تهب عليها نسائم الحرية أو الكرامة أو العدالة، ولا تعرف المعنى الحقيقى المتكامل للثورة. ما يجرى على «الوطن» الكبير، هو تحصيل حاصل لما يجرى داخل «البيوت». إن تلك البيوت القامعة الذكورية هى التى تخلق النظام الذكورى القامع، وهى التى تصنع الديكتاتور السياسى، والإرهابى الدينى والتسلط الثقافى، وهى التى تقتل النساء بالطرق العصرية، وباسم أشياء برّاقة مضللة. لو أن كل إنسانة وكل إنسان بدأ بنفسه.. بدأ الثورة فى بيته، ويحوله إلى بؤرة صغيرة، قائمة على العدالة الكاملة بين جميع الأطراف، وعلى الحريات المتساوية، وعلى الكرامة المتساوية، لتحققت «الثورة الأصعب».. وهذه تستحق عن جدارة لقب «ثورة القرن». من واحة أشعارى: الثورة تعنى أن نتصور السماء بكل الألوان أن نقفز فوق حواجز الزمان والتقاليد والمكان وأن نبكى.. ونفرح.. ونرقص ونغنى على نزف الأشجان