يكاد الكتاب الغربيون يجمعون على أن إسرائيل انتصرت عسكريا فى حرب 73، بينما يجمع المحللون السياسيون المصريون على أننا انتصرنا. لا أدرى لماذا هذا التناقض؟ هل للنصر العسكرى موازين تختلف من مكان إلى آخر؟ أم هو التأييد المطلق لإسرائيل و«الحقد» على مصر؟ تحول الحديث عن حرب أكتوبر إلى أحد «المناطق الحساسة» فى الجدل السياسى والاجتماعى المصرى، مع أن العلاقات الدولية، والحرب إحدى مظاهرها، عرضة للأخذ والرد، والتدقيق والتمحيص، واختلاف وجهات النظر. لست خبيرا عسكريا لكى أجزم بنتيجة حرب كُبرى كحرب 6 أكتوبر، لكن الواضح أن القصة الكاملة استبدل بها عنوان قصير يقول إننا انتصرنا، أو إن العدو انتصر. هكذا، دون نظرة نسبية فى الموضوع. الملحمة الكبرى فى حرب أكتوبر هى قرار الحرب، والعزم على خوض المعركة رغم كل الظروف المعادية، ورغم التأييد الغربى المطلق لإسرائيل، ورغم الهزيمة المرة قبل ست سنوات فقط، ثم خطة العبور وتنفيذها فى الساعات الأولى من الحرب. كل هذه أمور أبهرت العالم وأسفرت عن تحريك قضية أريد لها التجمد، ثم المماطلة إلى أجل غير مسمى. الملحمة الحقيقية هى تحدى الأسطورة التى صدقها العالم عن الجيش الإسرائيلى، ثم تحطيمها، بدلا من السماح لها بتركيعنا. الملحمة الحقيقية هى الإنسان قائدا ومخططا وجنديا ومقاتلا ومواطنا. هذا الشعب تحمل كثيرا من أجل حرب 73 وقدم أغلى ما لديه للدفاع عن أرضه. كل هذه انتصارات عظيمة. يصغر إلى جوارها الجدل حول النصر الميدانى ومداه، أو حتى مخافة الهزيمة فى مرحلة ما. تأكيد هذه الانتصارات العظيمة يبرر الانتقال إلى انتصار آخر للإنسان، ألا وهو قدرته على استيعاب الحقائق والتعامل معها ووضعها فى سياقها. الحديث عن حرب أكتوبر بعد ما يقرب من أربعين عاما يجب أن يكون حديثا مفتوحا، وواثقا من نفسه، ومعتزا بما أنجزه، ولا يتبرم بالاختلافات فى وجهات النظر. لماذا؟ لأن هذا يعلمنا كمواطنين التفكير فى السياسة بعقلانية وبأسلوب منهجى. وهذا مهم جدا للمستقبل، لا سيما فى مجتمع نتمنى أن يصير ديمقراطيا، مبنيا على المعرفة، والدراسة، والتعلم من التجارب. الإيحاء بأن حرب أكتوبر كانت نصرا قاطعا يجعلنا كمواطنين نتساءل: إن كنا فعلناها مرة فلماذا لا نفعلها مرة ثانية، وتكون نهاية لعدوانية إسرائيل وعنصريتها؟! أما الحديث عنها كملحمة فيها من التضحيات الكثير، وفيها من المكاسب والخسائر الكثير، فيجعلنا كمواطنين ندرك أن الحروب ليست نزهة، وأن النصر والهزيمة فيها ليست حتمية تاريخية، بل تعتمد على قدراتك الاقتصادية وعلى تحالفاتك السياسية، وعلى قدرتك على التسلح، وعلى مصادر أسلحتك. يجعلنا كمواطنين حريصين على فكرة الأمن القومى المصرى ووضع سلامة أراضينا كخط أحمر متقدم جدا، لا بالشعارات، وإنما بالسياسات السكانية والإنمائية والاقتصادية والعسكرية بالقرب من الجبهة. ويجعلنا كمواطنين، من خلال مجتمع ديمقراطى مأمول خط الدفاع الأول ضد القرارات السلطوية التى تعرض هذا الأمن القومى للخطر. الحديث عن حرب أكتوبر كنصر قاطع يظلم أول ما يظلم قائد هذا النصر، الرئيس السادات، فكثير منا لا يفهم حتى الآن، لا يفهم لماذا لجأ إلى عقد معاهدة سلام (ولست هنا فى معرض الحديث عن تقييم لأدائه فى تلك العملية، فهذه قصة أخرى). كثير منا لا يدرك أن مفاوضات «السلام» لم تبدأ فقط فى كامب ديفيد، إنما بدأت فى مفاوضات تثبيت وقف إطلاق النار عند الكيلو 101 على طريق السويس، أعمق نقاط المواجهة بين الجيشين (مرة أخرى القرارات السياسية فى هذه المفاوضات قصة أخرى). هذه موازين القوى الحقيقية. وهى الشىء الوحيد المعترف به فى السياسة بين الدول. الحديث عن حرب أكتوبر بطريقة موضوعية عقلانية سيجعلنا نتسامح مع أنفسنا، وأول من نتسامح معهم أبطال حرب 67. لم يكن هذا خطأ مطبعيا، قصدت أبطال النكسة، الجنود والضباط الذين لبوا نداء الوطن فى ظروف صعبة لم يكونوا فيها مجهزين ولا مستعدين، ودفعوا حياتهم ثمن أخطاء سياسية لم يكن لهم ذنب فيها. والنتيجة أنهم ماتوا ولم يذكرهم أحد، ولا يحتفى بهم فى ذكرى النكسة أحد، ولا يحتفى بهم فى ذكرى حرب أكتوبر أحد، بينما بعض من أصحاب القرارات الكارثية التى وضعتنا فى المأزق لا يزالون حتى اليوم أبطالا مكللين بالغار.