حينما صرخ الألتراس الأهلاوى بنشيدهم الأثير «حرية حرية» أمام محكمة مدينة نصر كان المشهد يعكس أصداء متشابهة لصراخ قديم خلال عهد الإمبراطور الرومانى جستنيان عام 532 قبل الميلاد، فى ما عرف بثورة نيقا، وهى الثورة التى انطلقت فى يناير أيضا وخرج على أثرها الإمبراطور يلقى خطابا منكسرا يَعِد فيه بالإصلاحات يوم 28، وانتهى الأمر به إلى اتخاذ قرار الفرار ولم يوقفه إلا زوجته الإمبراطورة ثيودورا، عاد جستنيان بأسلحة السياسة التقليدية السيف والذهب.. استمال فريقا وقتل 30 ألفا من الفريق الآخر.. حتى استتب الأمر له. أوجه التشابه بين المشهدين مذهلة وتحمل فى طياتها تنبؤات بأحداث فى المستقبل وأجوبة لألغاز فى الحاضر. القاسم المشترك بينهما هو قوة جماهير الفرق الرياضية. ففى عهد جستنيان تطور نفوذ الجماهير المشجعة إلى سباق العربات والخيول (فريقى الزرق والخضر) فى الهيبيدروم، والأخير مكان اللعب والتنافس الرياضى، اعترضت الجماهير على سياسات الإمبراطور المالية التى وضعها يوحنا الكبدوكى، ونفوذ رجل القانون المقرب منه تريبونيان. طالب الثائرون بعزلهما ثم تطور الأمر إلى المطالبة بعزل الإمبراطور نفسه، وتعيين ابن أخ الإمبراطور السابق مكانه، وافق جستنيان على مطالب المتظاهرين وعزل تريبونيان ويوحنا الكبدوكى ولكن جاء ذلك متأخرا. واندلعت الشرارة واجتاحت المدن، وتحول سخط الهيبيدروم إلى حرب أهلية يوم 25 يناير، ثم حاصر المتظاهرون القصر يوم 28، وخرج الإمبراطور ضعيفا يتودد للشعب، وأعلن مسؤوليته عن الأحداث واستعداده التنازل عن السلطة، ثم قرر الفرار لكن زوجته أوقفته، أحرجته بتهكمها «إن شئت أن تنجو بنفسك فليس ذلك صعبا ولا شىء يمنعك فالمال وفير والبحر وسيع والسفن كثيرة على الشاطئ، أما أنا فإنى لن أتمسك بالقول القديم إن العباءة الإمبراطورية خير الأكفان». لجأ إلى الحيلة فأمر قائده نارسيس باستمالة رؤساء الأحزاب بالأموال والهدايا، خصوصا زعماء الزُّرق، وفعلا نجح فى ذلك وانسحب الزُّرق من الهيبيدروم، ثم جمع قائد الجيوش بليزاريوس جنوده وتوجه إلى الهيبيدروم وارتكب مذبحة راح ضحيتها من 30 إلى 40 ألف شخص.. قمع الثورة واستمر حكمه قويا. تفاصيل ثورة نيقا مسطورة فى أكثر من مرجع منها كتاب الدكتور وسام عبد العزيز فرج «دراسات فى تاريخ وحضارة الإمبراطورية البيزنطية»، وكتاب «بيزنطة بين الفكر والدين» للدكتور رأفت عبد الحميد، وكتاب الدكتور إسحق تاوضروس «عبيد التاريخ السرى لبركوبيوس». تفاصيل الصفحات تحمل بذورا لما نراه اليوم.. ففيما هتف الألتراس البيزنطيون «نيقا.. نيقا» أى النصر النصر، ورددت خلفهم الأغلبية «عاش الزرق والخضر الرحماء». اليوم يهتف الألتراس الأهلاوى «حرية.. حرية» فى المدرجات، وتتبعهم كتلة غير رياضية فى الميادين. نكتشف أن الألتراس كتلة سياسية خام لم تلوثها الصفقات بعد، كتلة كثيرة العدد لها زعامات، تملك رأس مال ثوريا مؤثرا فى نجاح ثورة يناير المصرية، وأبرزه دورهم فى موقعة الجمل. قدمت الكتلة تضحيات ملموسة، كتلة تمارس السياسة بروح اللعب وبتنظيم العسكر فتمنح المواجهات مع السلطة متعة وإثارة ونصرا فى المعارك المباشرة والسريعة، وتضخ طاقة إضافية فى أوردة النضال. تقول كلمات أغنيتهم للحرية.. «قلناها زمان للمستبد.. الحرية جاية لا بد.. يا حكومة بكره هتعرفى بإيدين الشعب هتنضفى.. حرية حرية». انتبه لكتلة الألتراس محمد البرادعى قال إن ما فعلوه فى مباراة الأهلى والترجى أعاد روح الثورة.. مثمِّنا قدرتهم على تنظيم الأمن فى المدرجات، دون الحاجة إلى الشرطة وإبراز اعتراضهم على حبس زملائهم احتياطيا بشكل حضارى مؤثر. كتلة الألتراس الهائلة قابلة للتحالف مع كتل أخرى.. رأينا ما فعله ألتراس الزمالك وكيف تحالفوا مع مطالب ألتراس الأهلى.. تملك القدرة على التأثير عبر آليات متنوعة وربما متناقضة.. قادرة على خوض المعارك بمرونة وقوة.. وعلى التحاور الحضارى والاعتراض السلمى.. وفوق ذلك القدرة على التأثير فى كتلة الأغلبية الصامتة بميولها الكروية وابتعادها عن تراشقات النخبة، وجدل المثقفين. من بين سمات كتلة الألتراس المتحفزة للسياسة قدرتها على الخصوبة.. تزداد عددا عبر خطاب بسيط ومؤثر يقنع قاطعا عريضا من وطن شاب.. يمثل صغار الشباب أغلبيته. وتتسع رقعة الكتلة كلما سدت منافذ الأحزاب.. وعادت الوجوه القديمة.. لن يدخل هؤلاء دكاكين يملكها مثلا محمد عبد العال أو السيد البدوى. فى صورتها الهادئة تقتصر كتلة الألتراس على كونها جماعة ضغط لها مطالب سياسية تنتزعها مع مطالبها الأخرى.. وفى أوقات التوتر قد تتحول إلى رقم يصعب السيطرة عليه. يقول لنا التاريخ إن جستنيان قضى على ثورة نيقا.. وسارع بعدها فى توسيع الإمبراطورية وإصلاح الدولة. لكن التاريخ يقول لنا أيضا إن ثورة نيقا كانت هبّة شعبية لجمهور الرياضة والمضطهدين دينيا والمأزومين اقتصاديا بلا أجندة معروفة.. بينما هبّة المصريين أصبحت ثورة، لها أجندتها وخارطتها.. كما يقول لنا أيضا إن رئيسا كان اسمه مبارك استسهل استخدام العصا لإزاحة كل العقبات فى طريق التمديد والتوريث وإسكات المطالب.. ومع كل ضربة عصا يزداد السخط.. حتى وجد نفسه فى القفص.. بينما يحتفل الألتراس بالشماريخ.