»الشعب والشعب إيد واحدة...» هذا غالبا شعار الموجة الثانية من الثورة. في الموجة الأولى اكتشف الشعب قوته، وعرف أن تحول فكرة التغيير إلى جسم كبير في الميدان يحولها إلى قوة مادية. تحتاج القوة السلمية إلى «قوة مسلحة».. وهذا ما جعل الشعب ينادي أسطورته القديمة: الجيش...«إيد واحدة..» وسيل المشاعر الفياضة التي لم تخل من حذر، ولا توجس، لكن قرار المجلس العسكري بالانحياز إلى الميدان، حسم الأمر واستقبلت الدبابات بالقبلات. ماذا حدث بعد حفلة القبلات..؟ الثورة ضد التيار الذي يسري في كل المؤسسات السلطوية بأن الشعب لا يعرف شيئا، ولا يحق له الاختيار والتغيير. تتكلم كل هذه المؤسسات باسم الشعب، لكن لكي تجبر الشعب على النوم مبكرا. تملك هذه المؤسسات سلطة معنوية تجعلها تصنف الشعب إلى «شرفاء» و«غير شرفاء».. دون أن تضع المعايير، ودون أن تخجل من وضع هذه الصفة على من يريدون مصر جديدة، بلا استبداد. جنرالات المجلس العسكري هم أبناء هذه النظرة الفوقية للشعب، يتصورون أنهم قطيع لا يفهم، طابور ميري سيحول الشخص العادي إلى رجل بعد مروره من ماكينة برنامجها مضبوط على فرم الشخصية لتصنع جنديا ينفذ الأوامر. هذه قواعد المجال العسكري، لكن المجال العام لا يمكن التعامل معه بهذه الطريقة، والحل ليس في تحويل الثوار إلى مواطنين طيبين يشربون اللبن بعد أن يشاهدوا البيان العسكري كل ليلة. جنرالات المجلس يريدون دخول التاريخ، لكنهم يرفضون أن يكون ذلك عبر بوابة الثورة. وعي الثورة بمطالبها نما في الشارع، اتسعت المطالب كلما تزايد الشعور بالقوة والثقة بالنفس... ومحور المطالب في النهاية تجسد في رغبة عارمة لإقامة «دولة» بالمعنى الحقيقي، وبعد سنوات من الحياة في «دولة تحت الإنشاء»... لماذا لا نشعر بأن مصر دولة بالمعنى الذي يشعرنا بأن هناك مؤسسات... ونظاما لا يرتبط بشخص أو عصابة أو حاشية مملوكية؟ أين مؤسسات الدولة...؟ الجيش هو الباقي الوحيد من مذبحة مبارك... لماذا؟ منذ 1919 لم تتحرك الدولة المدنية عن كونها «مشروعا» لم يكتمل حتى الآن، تحت ألعاب وصراعات القصر وحزب الوفد، ومن بعدها مجموعة الضباط الأحرار والمجتمع، لم يكن هناك سوى إرادة الحكم، وهذا لا يصنع دولة، ولا مؤسسات. المؤسسات تصبح أشكالا وهمية، نماذج ورقية، يقف عليها كبير يختاره الرئيس، وحسب سطوة الكبير عند الرئيس أو في مواجهته، يكون تأثير المؤسسة ونفوذها. إقطاع سياسي أكثر منه مؤسسات دولة، والفارق هنا كبير بين عبد الناصر ومبارك، ناصر ساحر يخرج من بين ضباط يوليو، يوازن بين حكام إقطاعياته، بمشروعية الجاذبية الجماهيرية، والأبوة الحنونة، القادرة على صنع معجزات في مجالات محددة، لكنها لم تستطع بناء الدولة. مبارك تعامل بمنطق كبير الموظفين، ومؤسساته منزوعة الفاعلية، لأنها إقطاعيات يدير كل منها موظفا، نصف مستشار، لرئيس تحميه بيروقراطيته، وخلفيته في الإدارة العسكرية. الدولة التي لم يكتمل إنشاؤها تآكلت.. وامتص دمها وحوش مهووسة بالمال والسلطة.. وحوش لا تشبع، ولا تكتفي من الثروات المنهوبة بغير حساب. الدولة تآكلت.. بينما النظام له سراديب سرية، يخفي فيها سر إدارة الحكم وسط كل هذا الخراب. الجيش يحكم الآن، ولا يريد أن يقيم طويلا بعيدا عن الثكنات... كما يتمنى جنرالات المجلس، ويرددون في الجلسات الخاصة. يقولون إنهم يريدون العودة إلى الثكنات، لكنهم إذا تركوا مصر الآن ستنهار. وهذا محل اتفاق... لكنه اتفاق ناقص لأن مصر ستنهار أيضا إذا أديرت المرحلة الانتقالية وكأن الثورة لم تحدث، أو كانت مجرد مظاهرة لإبعاد مبارك وعائلته عن الحكم. الموجة الثانية من الثورة رسالة واضحة: الثورة تريد إنهاء جمهورية التسلط للأبد ولن تستبدل مبارك بعشرين مبارك.