قفز شاب صغير على سور القلعة المهيبة في قلب مدينة نصر، وأصابته دهشة الاكتشاف: قصر صغير داخل أسوار المبنى الرهيب لجهاز أمن الدولة. قصر كامل الأوصاف يتضمن ملعب تنس واسعا، وحمام سباحة فخما، قيل إنه مخصص لإقامة رئيس الجهاز. لماذا صمم المبنى ليكون أقرب إلى مستعمرة، فيها حياة كاملة للضباط، المبنى أضخم من مجرد مكان لوظيفة، إنه فضاء حياة مكتملة، معزولة، لها قوانينها الخاصة، وهذا أحد الأسرار الكبيرة في تركيبة عقل الأمن. هل ما يحدث إنفلات مقصود؟ أم مرحلة انتقالية بين طريقتين في إدارة الأمن؟ هل الثورة مسؤولة عن إنفلات البلطجية خارج السيطرة؟ بلطجية ميري صنعهم النظام ولم يجد غيرهم للدفاع عنه في موقعته الأخيرة التي استخدمت فيها الجمال والبغال تحت إشراف كبار رجال الدولة، ومؤسساتها الكبيرة كلها اشتركت في حرب الرئيس على الشعب بفيالق من العصور البدائية وضعت الجمل في واجهة الفيسبوك. هل كان نظام مبارك أكثر أمنا؟ أم أنه كان أكثر قدرة في السيطرة على عصابات البلطجة؟ سؤال أهم: كيف يعود الأمن؟ لأنه ليس المهم عودة الأمن، ولكن كيف يعود؟ الأمن أفيون الشعوب. الديكتاتور ترك حكمته هذه قبل أن يغادر إلى الزنزانة الطبية، تركها وهو يدرك بحاسة الملتصق بالسلطة، والمستمتع بإنتشار كيمياء الإقامة الطويلة في قصر الأمر والنهي، إن البديل عنه فوضى، لأن كل شيء في البلد إفتقد الصلابة، واستبدل معجون الاستبداد والفساد بها. معجون فريد استطاع مبارك أن يرمم الشروخ في بناء دولة تحت الإنشاء. ترميم يمنع السقوط، لكنه لا يصنع حياة آمنة، أبنية معطوبة، مرتبطة كلها بمعجون الديكتاتور. وفي دولة لم تعبر مرحلة التأسيس، ودستورها المكتمل الوحيد مكتوب في سنة 1923 تعبيرا عن مشروع دولة مدنية، لم يكتمل حتى الآن، لم يكن هناك لا في الملكية ولا الجمهورية سوى إرادة الحكم، وهذا لا يصنع دولة، ولا مؤسسات. إرادة الحكم تصنع «القصر» و«النخبة» المؤهلة للحكم، وخلفها شعب يصفق ويؤيد ويعجب بانتصارات المستولي على القصر، يهتف له «بالروح بالدم» من أيام الملك إلى الجنرال، الروح والدماء تبذل في سبيل حياة ساكن القصر، كيفما يكون. لساكن القصر عشاق وعباد، لكنهم ليسوا كفاية لحكمه، وهذا ما يتطلب عدوا ومؤامرة، وهكذا عاشت مصر في انتظار برابرة، ليس خوفا أو رعبا فقط على الموقع الجيوسياسي المميز، ولكن لأن هذه أداة توحد خلف المركز الواحد. المؤسسات تحولت إلى إقطاعيات سياسية يقف عليها كبير يختاره الرئيس، وحسب سطوة الكبير عند الرئيس أو في مواجهته، يكون تأثير المؤسسة ونفوذها. هناك فارق كبير طبعا بين عبد الناصر ومبارك، ناصر ساحر يخرج من بين ضباط تموز، يوازن بين حكام إقطاعياته، بمشروعية الجاذبية الجماهيرية، والأبوة الحنونة، القادرة على صنع معجزات في مجالات محددة، لكنها لم تستطع بناء الدولة، أو استكمال البناء. مبارك تعامل بمنطق كبير الموظفين، ويدير إقطاعياته موظف، نصف مستشار، لرئيس تحميه بيروقراطيته، وخلفيته في الإدارة العسكرية، ومعادلته في الحكم قادت إلي تآكل الدولة التي لم تنشأ بعد، بعد أن امتص دمها وحوش مهووسة بالمال والسلطة، وحوش لا تشبع، ولا تكتفي من الثروات المنهوبة بغير حساب. الأمن مؤسسة حماية للرئيس ومديري إقطاعياته، الذين تحولوا إلي عصابة، ومنها إلي مافيا مغلقة على مصالحها التي يخدم عليها جهاز سياسي، ويحميها جهاز أمن تولى إدارة البلاد سياسيا، ولم يتفرغ أبدا في تطوير القدرات والإمكانيات التقنية. لم يتعلم الضابط كيف يحمي أمن الشوارع، أو يحقق في جريمة، تعود على اصطياد المجرم والسيطرة عبر الرعب والخوف. الأمن تحول في نهاية نظام مبارك إلى جهاز سياسي كبير، لا يحقق الأمن ولكنه يدير الجريمة، ويسيطر على أدواتها. ومن هنا ولدت معادلة: الأمن مقابل الكرامة.