لماذا اختار وقرر الدبلوماسي الإسرائيلي في برلين أن يبوح بالسر الذي احتفظ به 23 عامًا؟ هل ثقل على نفسه حمل هذه القصة سنة وراء سنة أم كان يسعى لضجة إعلامية حققها بالفعل آنذاك؟ الإعلام تعامل مع القصة بوصفها وجبة ساخنة استحقت تغطية واسعة. هو بطل غير عادي، كما يتحدث عنه زملاؤه وقادته، قام ببطولة غير عادية في أثناء معارك حرب أكتوبر وصولًا لمعركة استشهاده، لكننا لم نختر قصته لنعيد روايتها اليوم لهذه الأسباب، وهي كافية، بل إننا اخترنا قصة الشهيد سيد زكريا خليل، لأنها قصة آلاف الجنود المقاتلين الأبطال الذين قاتلوا بشجاعة واستشهدوا ورحلوا دون أن نعرف الكثير عن بطولاتهم، بل وأحيانا كثيرة لم نعرف هوياتهم، وقمنا بتكريمهم تحت اسم (الجندي المجهول) في كل حروب مصر الحديثة، من حرب فلسطين إلى حرب 1956 وحرب 1967 ثم حرب الاستنزاف الطويلة ثم حرب أكتوبر 1973 المجيدة. وعندما شاء القدر أن تكشف وريقات من إحدى قصص البطولة لهذا الشهيد بعد 23 عاما من استشهاده، حمل ألقابًا بعد موته ونال تكريمًا مستحقًّا، لكن تكريم بطولة هذا الشهيد هي في الواقع تكريم لبطولة كل جندي ومقاتل مصري أعطى حياته في كل معركة شرف خاضها مقاتلو الجيش المصري. وإذا كنا ما زلنا لا نعرف تفاصيل عن آلاف وعندما شاء القدر أن تكشف وريقات من إحدى قصص البطولة لهذا الشهيد بعد 23 عاما من استشهاده، حمل ألقابًا بعد موته ونال تكريمًا مستحقًّا، لكن تكريم بطولة هذا الشهيد هي في الواقع تكريم لبطولة كل جندي ومقاتل مصري أعطى حياته في كل معركة شرف خاضها مقاتلو الجيش المصري. وإذا كنا ما زلنا لا نعرف تفاصيل عن آلاف المفقودين الذين هم في عداد الشهداء، لكننا نستطيع أن نرى ما أخفاه الزمن، لأن قصة هذا الشهيد تصلح أن تكون قصة كل بطل لا نعرف شيئًا عن استشهاده. لمتابعة التحقيقات الخاصة في يوم الشهيد توقف الدبلوماسي الإسرائيلي أمام السفيرة المصرية عزيزة فهمي، في حفل ضم الدبلوماسيين الأجانب في برلين عام 1996 وانحنى أمامها مظهرًا احترامه وكرر الانحناء، ثم سارع بتقديم نفسه ليس كدبلوماسي بل كجندي سابق بالجيش الإسرائيلي، قام في 1973 بقتل أحد الجنود المصريين ودفنه واستولى على متعلقاته الشخصية، واحتفظ بها إلى أن قرر بعد كل هذه السنوات أن يعيدها إلى أسرته، فسلمها للسفيرة المصرية وبعدها اشتعلت القصة في وسائل الإعلام العالمية والعربية لأسابيع. هو الشهيد سيد زكريا خليل، من قرية البياضية بحضن الجبل ضواحى مدينة الأقصر، ومن مواليد عام 1949، وعندما تم تجنيده التحق بسلاح الصاعقة، فقد كان قويًّا مفتول العضلات، ولبسالته ضموه لكتيبة الجراد "ب"، التي كانت مسؤولة عن عمليات الاستنزاف فى سيناء من أكتوبر 1970 إلى أكتوبر 1973، وأثبت في تدريباتها مهارة فائقة دفعت به ضمن أقوى تشكيلاتها، ضمن أفراد الكتيبة التي كان يقود رجالها البطل العميد برادة. في أول أكتوبر 1973 حصل زكريا على إجازة ستة أيام كاملة، لكنه لم يكملها، إذ وصله استدعاء من كتيبته بسرعة العودة لتنفيذ مناورة تكتيكية. في وحدته عقد قائد الكتيبة محمود زكى عيسى برادة اجتماعًا بجنوده، وكانوا نحو ألفي جندى، وأخبرهم عن اختيار 500 منهم لتنفيذ عملية استنزافية في سيناء، وحدد لهم أن المهمة ستكون من نصيب من لم يشارك في العملية الأخيرة، وكان زكريا ممن شاركوا فيها وهنا رفع يده وطلب من قائده أن يشركه في العملية، وأمام الإصرار المتوهج في عينيه وافق القائد وتلقى زكريا تفاصيل العملية التي كانت تعطيل الجيش الإسرائيلي وإرباك خطوطه الخلفية لحين عبور قواتنا وهو ما تحقق لمدة أربع ساعات كاملة. تم تقسيم الخمسمائة فرد إلى مجموعات صغيرة تنتشر لتنفيذ الخطة. ومجموعته كانت مكونة من ثمانية أفراد استشهد أول فرد فيها في حقل ألغام في أثناء تنفيذ التعليمات بالصعود إلى رأس ملعب على جبل الجلالة. ثم صدرت التعليمات من قائد المجموعة النقيب صفي الدين غازي بالاختفاء خلف إحدى التباب وإقامة دفاع دائري حولها. ويظهر اثنان من البدو ليحذرا المجموعة من وجود وحدة إسرائيلية قريبة منهم، وبالفعل وبعد ذهاب البدو، ظهرت 50 دبابة معادية تحميها طائرتا هليكوبتر.. فحبست مجموعة سيد زكريا أنفاسها حتى مرت الدبابات الإسرائيلية. أقرا أيضا أمير شهداء حرب أكتوبر.. إبراهيم الرفاعي وبحلول الليل بدأت المجموعة في الاستعداد للتوجه لمكان المهمة المكلفة بها، ورغم أن الإسرائيليين أغلقوا كل الطرق، فإنهم تمكنوا من التسلل حتى وصلوا إلى المنطقة المحددة واحتموا بأحد التلال. وفي أثناء محاولتهم الحصول على مياه من بئر قريبة اكتشفوا وجود سبع دبابات إسرائيلية بجانب البئر، فقام قائد المهمة صفي أبو غازي بوضع خطة للهجوم عليها قبل طلوع الشمس، وكلف خمسة أفراد بها منهم سيد زكريا، ولكنهم عندما وصلوا كانت الدبابات الإسرائيلية قد غادرت الموقع بعد أن ردمت البئر. كأن المهمة تنتظرهم والقدر وضع ملامح المعركة، ففي طريق العودة لنقطة تمركزهم تقابل الجنود مع ثلاث دبابات بداخلها أطقمها فاشتبكوا على الفور معها بأسلحتهم وقتل زكريا وزميله اثنين من جنود الحراسة بالسلاح الأبيض، بينما هاجمت بقية المجموعة الدبابات وقضت بالرشاشات على الفارين منها. وفي هذه المعركة قتل 12 إسرائيليا، وعادت المجموعة لنقطة انطلاقها، لكن سرعان ما ظهرت الهليكوبتر تبحث عن منفذي العملية وحلقت أربع طائرات فوق رؤوس المجموعة وطلبت إحداها من قائد المجموعة تسليم نفسه مع رجاله. وانتقل المشهد إلى المعركة الأخيرة بين رجال مجموعة سيد زكريا والجنود الإسرائيليين الذين قامت الطائرات بإبرارهم بالمظلات لتطويق الموقع، ونجح أحد الجنود المصريين ويدعى الجندي حسن السداوي في إطلاق قذيفة (آر.بي.جي) على إحدى الطائرات فأصيبت، وحاول طاقمها الهبوط بالمظلات إلا أن رصاصات سيد زكريا كانت تنتظرهم، وسقط بنيران رشاشه في ذلك اليوم 22 جنديًّا إسرائيليًّا. وبدا واضحًا أن المعركة معركة موت ولا سبيل لأن يتراجع أي طرف، فصمم المصريون أن تكون حياتهم ثمنًا لمعركة شرف وأن يحصدوا أكبر عدد ممكن من أرواح العدو مقابل أرواحهم. واستدعى الإسرائيليون طائرات جديدة قامت بإنزال نحو مائة جندي واشتبكت معهم المجموعة في معركة غير متكافئة، واستشهد قائدها النقيب صفي الدين غازي بعد رفضه الاستسلام، ثم استشهد جميع أفراد الوحدة واحدًا تلو الآخر، وظل يضرب على القوات الإسرائيلية وينتقل من مكان لآخر حتى ظن الإسرائيليون أنهم يواجهون كتيبة منتشرة إلى أن نفدت ذخيرته. أقرا أيضا مصر ليست الوحيدة.. 6 دول عربية تحتفل بيوم الشهيد وهنا تسلل جندي إسرائيلي من خلف البطل المصري وأفرغ في جسده خزانة بندقيته كاملة، فقد رأى بعينه شجاعة وإقدام هذا الجندي في مواجهة الموت كما حكى بعد ذلك فخشي مواجهته حتى بعد أن نفدت ذخيرته. سالت دماء سيد زكريا على أرض سيناء كما سالت دماء آلاف وآلاف عبر حروب مصر المختلفة فوق هذه الأرض المباركة، ويقوم الجندي الإسرائيلي بإطلاق 21 طلقة في الهواء، تحية للمقاتل الشجاع، ثم يدفن الجثمان، بعد أن يجرده من متعلقاته الشخصية ويحتفظ بها. وبعد أن اختار وقرر أن يسلم متعلقاته لأهله كتب الإسرائيلي خطابا أو كلمة وجهها إلى روح سيد زكريا، يقول فيها: "ها أنا احتفظت بمتعلقاتك وسلمتها لأهلك بجنوب مصر، لعلك تسامحني يا سيد، لو لم أقتلك لقتلتني. رحت تقاتل جبابرة عتاة ودمرتهم وحدك، وقد هيئ لنا أننا نواجه كتيبة صاعقة مصرية! لكنك كنت وحدك يا سيد". وبعد تسليم متعلقات الشهيد للسفيرة المصرية ومنها إلى أهله وضعت هذه المتعلقات في ركن خاص بالقاعة المخصصة لسلاح الصاعقة بالدور الثاني بالمتحف الحربي بالقلعة، مع لوحة نحاسية نقش عليها وجه البطل واسمه. ومتعلقات الشهيد التى سلمها الدبلوماسي الإسرائيلي هي: بطاقة عسكرية لتحقيق الشخصية ومبلغ مالي عبارة عن ورقة فئة الجنيه و3 ورقات فئة العشرة قروش وقطعة معدنية فئة العشرة مليمات. وحوالة بريدية مرسلة لأهله بمبلغ 18 جنيهًا وخمسين مليمًا، وتلغراف به عنوان المرسل إليه الحوالة والعنوان هو: الأقصر – أبو الحجاج – نجع الخضرات. كما عكست جزءًا من حياته الشخصية من خلال خطابين أحدهما من أخيه محمود الذى يكبره سنًّا وكان أيضًا مجندًا بالقوات المسلحة فى تلك الفترة ويخبره فيه بموعد إجازته الميدانية وتمنياته أن توافق فى جزء منها إجازة أخيه لكي يتقابلا خلالها. أما الخطاب الآخر فقد كتبه سيد لوالده ولم يرسله، ويقول في الخطاب: «أبي العزيز زكريا خليل تحية طيبة وبعد، إننى أكتب لك هذه الرسالة وأنا في ظروف غير عادية، وفي ظروف حب الدفاع عن الوطن، أما إن أصبحت شهيدًا فلا تحزنوا عليَّ أبدًا، لأنني سأكون في منزلة لا يصل إليها أحد سوى الأنبياء، وقد قال الله فى كتابه العزير: بسم الله الرحمن الرحيم، "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموتا بل أحياء عند ربهم يرزقون"، صدق الله العظيم. وهذا هو ملاذي من الله عز وجل، وهذا ما أتمناه طوال حياتي. سلامي للجميع. ملحوظة: احتفظوا بهذه الرسالة ربما قد تكون الرسالة الأخيرة مني لكم». أقرا أيضاالشهيد في السينما..«الخلية» قدم بطل حقيقي أيضا من متعلقات البطل الشهيد سيد زكريا خليل تصريح إجازة باسمه من يوم 18 حتى 25 سبتمبر عام 1973، وتلغراف من وحدته تطالبه فيه بقطع إجازته وتسليم نفسه لوحدته يوم 24 سبتمبر 1973، وذلك لظروف بدء مناورة الخريف التي تمت العمليات الحربية تحت سترها، وحافظة جلدية سوداء مقلمة بخطوط بيضاء كانت تضم هذه المتعلقات. وظل سيد زكريا في عداد المفقودين مثل آلاف من الجنود في حروب مصر كلها تعتبرهم الدولة وأهلهم أمواتًا بعد سنوات من فقدان الأمل في رجوعهم، ولا يعرف أحد كيف ماتوا بالضبط وفي أي نقطة دفنت جثامينهم. وبعد أن انتقل اسم سيد زكريا خليل من سجلات الجنود المجهولين إلى سجلات الشهداء المعروفين منحته الدولة نوط الشجاعة من الطبقة الأولى، كما أطلق اسمه على أحد شوارع حي مصر الجديدة.