في يوم من أيام الثورة كنت قد تركت الميدان وتوجهت مع مجموعة صديقات إلى مكتب يقع في أول شارع قصر النيل لنستريح قليلا. قبل أن نصل إلى باب المكتب سمعنا صوتا قويا مخيفا قادما من ميدان التحرير، اندفعنا جميعا نجري في اتجاه التحرير، كان لكل منا ابن أو ابنه في الميدان، نجحت واحدة منا في الاتصال بابنتها فجاء صوتها هادئا مطمئنا مفسرا أن الصوت كان لطائرة حربية طارت على بعد منخفض فوق ميدان التحرير، وكان الميدان وأهله قد اعتادوا طوال أيام الاعتصام طائرات مروحية تدور فوقهم، وكانوا يعرفون أو يخمنون أنها للتصوير. الطائرات التي عرفنا في ما بعد أنها «إف 16» كانت تظهر في ذلك اليوم للمرة الأولى، وكانت تحدث صوتا شديد القوة. بعد لحظات من صوت المرور الثاني للطائرة كان الميدان كله يهتف: «حسني اتجنن.. حسني اتجنن»، ومع الهتاف يشير الجميع بيدهم الإشاره المعروفة التي نستخدمها للتعبير عن الجنون. حوّل الشعب العبقري خوفه إلى نكتة، وحوّل من يحاولون إرهابه إلى لاعبي أكروبات في سيرك يقدمون عرضا بالطائرات ليسلوه ويمتعوه. وقد استمتعت وأنا أراقب نفسي أتحول من الذعر إلى الضحك ثم إلى المشاركة في الهتاف وحركة اليد. أعتقد أن هذا المشهد معروف للجميع، وهو مشهد له دلالة عميقة، ويظهر سمة أساسية في الشعب المصري (أو في من يشارك من الشعب المصري). وأعتقد أن أحدا من المجلس العسكري لم يهتم بدراسته وتحليله، وإلا كان عرف من أعد كلمة اللواء الفنجري شكلا ومضمونا، أن شعبا يواجه «الإف 16» ب«حسني اتجنن»، لن تهتز له شعره من أي إصبع مهددة. أحدث البيان أثرا قريبا من أثر «الإف 16» سبب خوفا لكل من هم خارج الميدان، أما كل من هم داخل الميدان سواء بالوجود الجسدي أو التضامن العقلي والمبدئي فانقسم إلى فريقين، فريق يضحك ويضحكنا معه، وفريق حزين على فقدان مشاعر عاطفية تجاه صورة جميلة لرجل وطني يؤدي السلام العسكري، صورة وضعوها على صفحاتهم ومواقعهم. أما الهتاف الذي اختاره الميدان للرد على البيان فهو «مش إحنا.. مش إحنا»، والمقصود به رسالة واضحة إلى المجلس العسكري: أنتم لا تعرفوننا. البيان ذكّرني بمشهد آخر.. هو مشهد اجتماع اللواء عمر سليمان مع رؤساء تحرير الصحف عندما كان نائبا لرئيس الجمهورية، وقال لهم ما معناه: «إن البديل الآن هو حدوث انقلاب، ونحن نريد أن نتجنب الانقلاب الذي يعني خطوات غير محسوبة ومتعجلة وبها مزيد من العقلانية، وهو ما لا نريد أن نصل إليه حفاظا على مصر وما تحقق من إنجازات»، يومها اختارت الصحف عنوانا رئيسيا «التحذير من الانقلاب»، وكنا نتساءل: ماذا يقصد بالانقلاب؟ انقلاب من؟ وعلى من؟ واحنا مالنا؟! الآن لدينا نفس التساؤل على الجملة الخاصة بالقفز على السلطة في البيان. من يريد أن يقفز على السلطة؟ وسلطة من؟ هل توجد معلومات لا نعرفها عن محاولة انقلاب مثلا؟! هل يقصد البيان تحذير الشرطة؟ أم تحذير الإخوان؟ بالطبع لا. إذن يقصد تحذيرنا نحن أهل الميدان والمتضامنين معهم. طيب واحنا مالنا؟ الرسالة مرسلة على عنوان خطأ «مش إحنا».