في عالمنا المعولم وما بعده تثار مسألة وضع اللغات الكبرى والصغرى في إطار السوق اللغوي المعولم، في ظل سيادة اللغة الإنجليزية، بوصفها لغة الاقتصاد والمفاوضات والاتفاقيات الدولية ولغة الدبلوماسية، والإنتاج المعرفي في العلوم الطبيعية والاجتماعية، في الفلسفة والاجتماع والآداب والعلوم السياسية والاقتصاد والقانون والفنون الجميلة .. إلخ غالبُ الإنتاج المنشور كونيا بالإنجليزية وفي اللغة الرقمية، لأنها أكثر اللغات مركزية ونفوذًا في السوق اللغوي العولمي. السؤال الذي يطرح في ظل هذه المركزية اللغوية العولمية حول الإنجليزية ما مستقبل اللغة الكونية/ العولمية الأولى في سياق صعود القوة الاقتصادية والثقل والديموغرافي الضخم للصين؟ هذا السؤال طرحه بعض المفكرين، وأساتذة اللغات حول مستقبل اللغات والإنجليزية حول أوضاع اللغات في عالمنا المتغير. وطرح المفكر وتأملاته تختلف في عديد الأحيان عن تحليلات المتخصص وأحيانًا تقود التأملات إلى بعض مناطق التلاقي بين كليهما. في مؤلف المفكر الفرنسي جاك أتالي "قاموس القرن الحادي والعشرين" ذهب إلى القول "لغة: "ما من لغة سوف تفرض نفسها كلغة عالمية، وسوف تنقسم كلّها إلى تنويعات لغوية. اللغّة الأولى التي ستُستخدم في العالم سوف تكون الصينيّة، أو بالأحرى مجمل اللّغات الصينية، وستتخطى الهندية، والإسبانية، والبرتغالية والبنغالية اللّغة الإنكليزية التي سوف تبقى خلف آلاف تلاوينها (من الأمريكية إلى "الهندغليزية") لمدة نصف قرن أيضًا، لغة الدبلوماسية، والتجارة والمصارف، والإنترنت. ثم لا يلبث هذا الضغط التوحيدي أن يتلاشى، لتصبح السلع الثقافية متاحة بلغات المستهلكين كلهّا. وتُنشئ القنوات التليفزيونية فروعًا لها باللغات المحلّية كلّها. ومع ذلك في وقت قريب، سوف تُعيدنا الترجمة الآلية – المكتوبة أولاً ثمّ الشفوية – إلى اللغات الأولى. سنقرأ في لغة ما كُتب أو قيل في لغة أخرى. حتى أننا سوف نتملكه من تعديل حركات شفاه المتكلمين من خلال تطبيق افتراضي محافظ على أشكال كي نتجنب الدبلجة. سوف تنشأ بلبلة لغوية محررة. ولن يتوقف تأثير اللغات على عدد متكلميها وإّنما على عدد روائعها وشهرتها" (أتالى، 204:1998). (مشار إلى هذا الرأي في مؤلف لويس جان كالفي أي مستقبل للغات؟ الآثار اللّغوية للعولمة، ص 242. وترجمة: جان ماجد حبور، الناشر مؤسسة الفكر العربي، بيروت، 2018) بينما يذهب المؤرخ الكبير إريك هوبزباوم إلى أن "يحتاج الاقتصاد العالمي والثقافة العالمية اليوم إلى لغة عالمية تكمل اللغة المحلية، لا لتكون لمجرد نخبة لا قيمة لها من حيث العدد، بل لشرائح أعرض من السكان. اللغة الإنكليزية هي تلك اللغة العالمية اليوم، ويرجح أن تظل هكذا في القرن الحادي والعشرين. يوجد أدب عالمي متخصص باللغة الإنكيزية في طور النمو فعلا. وهذه اللغة الإنكليزية الجديدة التي تقوم مقام اللغة العالمية العامة (الإسبرانتو) علاقتها واهية باللغة الإنكليزية التي يكتب بها الأدب بقدر ما هو حال العلاقة بين اللاتينية المستخدمة في الكنيسة في العصور الوسطى بلغة فيرجيل (virgil) وشيشرون (cicero)". (أريك هوبزباوم أزمة متصدعة، الثقافة والمجتمع في القرن العشرين، ترجمة سهام عبد السلام، ص 66، الناشر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2015). في بعض التقارير الصحيفة التي نشرت مؤخرات – الحياة 27 مايو 2018 ص 17- تشير إلى بعض ما أشار إليه جاك أتالي في مؤلفه الذي صدر عام 1998 في دراسة أجرتها جامعة كمبريدج ذهبت فيها إلى أن أكثر من 350 مليون صيني يجيدون الحد الأدنى من اللغة الإنجليزية، و 100 مليون شخص في الهند، ورتبت الدراسة على ذلك أن عدد الأشخاص الذين يتحدثون الإنجليزية كلغة ثانية في الصين أكبر ممن يتحدثون بها كلغتهم الأم في الولاياتالمتحدة، لأن خمس الأميركيين يتواصلون بلغة مختلفة في المنازل كحال الجاليات الآسيوية واللاتينية. وتذهب الدراسة المشار إليها في هذا التقرير إلى التشكيك في استمرارية انتشار اللغة الإنجليزية كما كان الأمر في العقود الماضية، "إذ يجيدها اليوم 1,5 بليون شخص تقريبًا، لكن أقل من 400 مليون يستخدمونها كلغة أم". إن التطورات التقنية في مجال الرقميات أدت إلى تطور في مجال الترجمة الفورية الصوتية والصورية بحيث يستطيع شخصان التحدث بلغتين مختلفتين باستخدام الهاتف، وذلك عبر تطبيقات ذكية قادرة على التقاط الصوت وترجمته في أجزاء من الثانية وفق هذا التقرير. هذه التقديرات حول مستقبل اللغات في عالمنا لا تعني أن هذا التغير سيحدث خلال عقود وإنما سيستغرق في بعض التقديرات نصف قرن في نظر جاك أتالي، في ظل التسارع في الثورة الرقمية وتحولاتها وكثافتها وابتكاراتها وتطور الترجمة الرقمية. من ناحية أخرى يثير هذا التطور عديد الأسئلة حول مستقبل اللغات الأخرى مع الإنجليزية، ونمو اللغات الإقليمية، والوطنية على نحو ما يطرحه بعض اللغويين الكبار المهتمين بالسوق اللغوي الكوني. هذا التحول المستقبلي، يعيد طرح سؤال مستقبل اللغة العربية الفصحى على عديد المستويات على رأسها ما يلي: أولها: مدى القدرة على التكيف واستيعاب التطورات في الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، وفي مجال العلوم الطبيعية والاجتماعية. ثانيها: الصراعات والمنافسات بين اللغة الفصحى واللغات المحلية على تعددها داخل المجتمعات العربية، لا سيما في ظل صحوة بعض المكونات العرقية واللغوية والقومية التي تتشكل منها الخرائط الطائفية والمذهبية واللغوية والقومية الانقسامية في عديد البلدان العربية؟ إمكانات التكيف واردة في حال ما إذا أمكن ما يلي: 1- الوصول إلى سياسة أو سياسات لغوية عربية متكاملة، يتم التنسيق فيما بين الدول العربية، إزاء تطوير اللغة العربية من حيث تبسيط النظام النحوي، وإعادة ضبط القاموس العربي، وإدخال المفردات والاصطلاحات التي تم تعريبها أو ترجمتها أو إدخالها إلى اللغة من الإنجليزية أو غيرها من اللغات الأجنبية. 2- إعادة النظر في طرق تدريس اللغة العربية، وتطويرها من خلال إعادة تأهيل مدرسي اللغة العربية لأن بعضهم بات يشكل أحد أسباب إعاقة تعليم العربية، بل والمساهمة في الحض على كراهية التلاميذ لها. 3- تطوير جذري للمناهج والمواد المقررة، واختيار النصوص الأدبية واللغوية الملائمة لسنوات الدراسة المختلفة، والبُعد عن التعقيد في الاختيارات الشعرية والنثرية والميل إلى مختارات تتسم بالجماليات، والتطور التاريخي للغة والآداب ييسر على التلاميذ والطلاب ولا يعسر عليهم الفهم والتمثل ومحبة اللغة القومية، وأن تكشف هذه المختارات عن مكامن الجمال والإشراق اللغوي. 4- إتاحة الفرصة واسعة أمام الطلاب لدراسة الأدب العربي الحديث والمعاصر -في الشعر العمودي، والحر-، وقصيدة النثر، لأنها تمثل أعلى مراحل التطور في الشعر العربي، ومن ثم التراجع عن النزعة المحافظة في الاختيارات الشعرية، والتي تخلط بين التحيزات الدينية التأويلية المؤدلجة لواضعي المناهج المقررة، وبين النزعة الجمالية والنقدية الموضوعية التي تتجاوز هذه التحيزات في الاختيارات. 5- ضرورة أن تتضمن الاختيارات سرديات روائية وقصصية ومسرحيات لكتاب من أجيال ستينية وسبعينية وما بعد إلى أعمال الموهوبين البارزين من الأجيال الشابة لأنهم الأكثر تعبيرًا عن روح ومعالم التغير في حياتنا وإيقاعاتها السريعة، ومشكلات الفرد التي باتت أكثر تعقيدًا عن ذي قبل. نحتاج إلى سياسة لغوية تكاملية، يدعو إليها المثقفون وكبار الأدباء والشباب، لأنها تتصل بمستقبل اللغة العربية التي تُعد أحد مكونات هوية بل وهويات هذه المنطقة من العالم. إن صحوة الهويات العرقية واللغوية والمذهبية والقومية، هي تعبير مكثف عن أزمة النظم السياسية الشمولية والتسلطية في العالم العربي، وفشل استراتيجيات بوتقة الصهر التي لجأت إليها هذه الأنظمة لبناء التكامل الوطني بعد الاستقلال، وذلك من خلال أجهزة القمع المادي والأيديولوجي والرمزي والديني، وعدم الاهتمام بالمكونات الأساسية الأخرى داخل هذه الدول وتهميشهم وإقصائهم في الأطر السياسية واستبعاد خصوصياتهم اللغوية والثقافية والمذهبية والدينية في هياكل ومؤسسات وسياسات الدولة والنظام. لم تستطع هذه السياسة الصهرية أن تحقق أهدافها في بناء تكامل وطني بين المكونات الأساسية داخل غالبية البلدان العربية، ومع جمود هذه الأنظمة وركودها السياسي وفشلها التنموي، أخذت الهويات والمكونات الأساسية في التعبير عن ذاتها ولغاتها وثقافاتها وهوياتها. هذا التعدد الداخلي في المكونات هو أحد مصادر الثراء للثقافات العربية. واللغات واللهجات المحلية والوطنية قد تشكل خصمًا من اللغة العربية في حال إذا استمر تجاهل تطويرها وعدم اتخاذ سياسات لغوية تيسر استخدامها من خلال السياسة التعليمية واللغة الإعلامية الميسرة والأكثر حركية وتعبيرًا ومباشرة وسلامة من الناحية اللغوية. من ناحية أخرى على المجامع اللغوية العربية والمثقفين والمترجمين أدوار مهمة في معالجة مشكلات التوتر والتنافس بين العربية الفصحى وبين اللهجات الوطنية واللغوية الأخرى العرقية كالأمازيغية والقومية كالكردية، وترجمة بعض الأعمال الأدبية الشعرية والروائية والقصصية من الكردية إلى العربية، وهو ما تم في بعض الترجمات، وكذلك تعريب بعض الموروث والشعر الأمازيغي. العربية هي اللغة الأم للجميع، والحاضنة لكل مكونات المجتمعات العربية، والهوية الجامعة التي لا تنفي الهويات الأخرى. من هنا تبدأ البدايات الأولى ومن خلالها تتوالد الحلول والسياسات اللغوية الفاعلة.