تعني المعلوماتيّة عموماً إمكانية، وربّما، أحقيّة اختزال «المعنى» في «العلامة» الاعتباطية التي يخترعها عقل حسابيّ نجح في ترجمة بناه ومحتوياته في لغة تكنولوجية اصطناعية بقدر ما هي تفاعليّة. هذا الحدث الاستثنائي- الذي كُنّي بالثورة الصناعية الثانية- انقلب فجأة إلى تحدّ ميتافيزيقي أمام أيّ «لسان» طبيعي أو قومي تكلّمه البشر إلى حَدّ اليوم: التحدّي الاصطناعي للعلامات بشكل يعد بإمكانية الاستغناء عن الحروف بعامة. ولأوّل مرّة أصبحنا نتخاطب بواسطة «لغات» ليست «ألسناً» خاصة بهذا الشعب أو ذاك. هذا التفريق أو الانفصال بين «اللّغة» (التواصلية) و«اللسان» (القومي) أخذ يُهدّد الإنسان المعاصر بضروب شتّى من التفكيك لهويّته اللّغويّة التي بنى عليها رؤيته للعالم المعيش إلى حَدّ الآن. وإذا كان اللسان القومي لا يوجد إلّا من خلال الناطقين به- فهو «كلام» أو لا يكون- فإنّ اللّغة الاصطناعية تدين بكلّيتها إلى الكتابة، فهي «شفرة» أو لا تكون. ومتى ترجمنا هذا الانزياح من الحرف إلى العلامة الاعتباطية، ومن اللسان إلى اللّغة، ومن الكلام إلى الكتابة، على مستوى تصوّر البشر لأنفسهم، وعلى مستوى أنماط الهويّة التي يشكّلونها من خلال لسانهم القومي، إلى حدّ افتراض تماهٍ صار مزعجاً أحياناً بين لسان قوم وبين هويّتهم- مثلاً بين العرب والعربيّة، أو بين الألمان والألمانية، إلخ...- فإنّنا سوف نجد أنفسنا أمام هذا التحدّي غير المسبوق: إلى أيّ مدى يمكننا أن نقول أنفسنا من دون «حروف» قوميّة، بل فقط بواسطة «علامات اعتباطية» بلا أيّ انتماء هووي؟ وبعبارة أدقّ: إلى أيّ حَدّ بمقدورنا أن «نقول» أنفسنا بشكل «معلوماتيّ»؟ هل «نحن» مجرد «علامات»؟ هل «نحن» مجرد «معلومات» اعتباطية حول «أنفسنا»؟ مجرد «أرقام» و«رسوم» و«نُظُم» و«تركيبات»، بحيث يصدق علينا الترادف اللاتيني بين «العقل» و«الحساب» (RATIO)؟ وتمحي المسافة الأخلاقية بين «المعنى» و«العلامة»، بين «الذات» و«المعلومة؟ ثمّة طرق من التفكير قد تساعدنا على فكّ هذا الإشكال. مثلاً: أن نعيد التأريخ لمفهوم «العلامة»، بحيث نعود به إلى مفترضاته الصامتة، كما فعل دريدا في كتابه الشهير «في الغراماتولوجيا». أو أن نتساءل: ما هو مآل كل تلك الأسئلة التي طرحها مفكّرو التحديث لدينا عن مستقبل اللّغة العربية، مثل جبران أو طه حسين، في ضوء التحدّي المعلوماتي راهناً؟ أو أن نطمح حتى إلى مثل هذا التساؤل المتمرّد على أفق الحداثة برمّتها: هل يمكن أن نفكّ الارتباط اللغوي مع «الغرب» الحالي باعتباره «عصراً معلوماتيّاً» بما هو كذلك، وباعتبارنا «مختلفين» عنه «إيبستميّاً» كما يعدنا بذلك الفكر «الديكولونيالي» راهناً؟ بيد أنّ ما هو مزعج إلى حَدّ الآن هو أنّ علاقتنا بعصر التكنولوجيا وبماهية التقنية لا تزال أداتيّة بحتة، ومن ثَمّ نحن لم نخضْ إلى اليوم أيّ مناظرة عميقة مع العقل المعلوماتي بما هو كذلك. طبعاً، نحن جزء أخلاقي وتاريخي من الإنسانية «الحديثة» من جانب كوننا أعضاء أساسيين و«خاتمين» للنسب التوحيدي أو الإبراهيمي أو خاصة «الكتابي» للعقل «الحديث» (وهو حديث في معنى أنّه نتاج علمنة القيم المسيحية العميقة). والسؤال المخيف هو: هل التقنية المعلوماتيّة هي بالفعل مجرّد «أداة» من نوع جديد، ومن ثَمّ أن على جميع اللّغات أن «تُحوسَب» أداتيّاً، أي من دون أيّ مساس بجوهرها الخاص؟ أم أنّ المعلوماتيّة هي «عقل» بالدرجة الأولى، ومن ثَمّ أنّها سوف تفرض علينا بالضرورة تغييراً جذريّاً لطرق التفكير وأشكال الإدراك التي نؤثّث بها عالم الحياة في أفق الإنسانية الحالية؟ هل نحن نعاني من «مجرّد» تأخّر (زماني) أو تخلّف (ثقافي) معلوماتي يمكن استدراكه بواسطة جلب «أداتيّ» للأجهزة فحسب أو بواسطة عمليات «برمجة» لأكثر ما يمكن من النصوص بالعربية على شبكة الإنترنت أو من خلال «ترجمة» المواقع الإلكترونية إلى لغة الضاد باعتبار الكمّ الهائل من المتكلّمين بها على مستوى العالم؟ أمّ أنّ ما يطلبه منّا العقل المعلوماتي الذي يتحكّم الآن في الشبكة العنكبوتية هو أمر آخر تماماً؟ يجدر بنا أن نأخذ مثالاً دقيقاً هنا حتى نتبيّن جسامة المشكل الذي يطرحه دخول اللّغة العربيّة في اشتباك بنيوي مع العقل المعلوماتي. حتى تدخل اللّغة العربيّة في التداول المعلوماتي العالمي يجب أن تتمّ ترجمة «حروفها» في «أرقام» أو أسماء رقميّة في نطاق منوال رقمي عالمي يُسمَّى «يونيكود» (UNICODE)- الشفرة الموحّدة. والخطة هي: كلّ «حرف» يجب أن يقابله «رقم» أو اسم أو معرّف رقمي مُوحّد على شبكة الإنترنت، بحيث يمكن أن يقع ترميز أيّ «نصّ» (بلغة قوميّة ما، مثل العربية) بواسطة شبكة من «الأرقام»، وذلك بهدف تداول وتبادل ذلك النصّ في الفضاء الرقمي، ومهما كان النظام البرنامجي المستعمل. وعلينا أن نلاحظ في نفس الآن المكوّنين الرئيسيين هنا وطريقة الارتباط بينهما: «الشفرة» من جهة، و«الوحدة» من جهة أخرى. هناك شفرة تنقل «حرفاً» من لغة قوميّة إلى «محرف» رقمي يتميّز بمجموعة من الخصائص الشكليّة التي تخضع لمعايير أو مقاييس معلوماتية بحتة. والقصد هو تأمين العلاقات الدلالية بين الحروف بواسطة علاقات رقميّة لا تمسّ أبداً بالمضامين الدلالية أو التداولية التي تعبّر بها لغة قوميّة ما عن مقاصد المتكلّم أو الكاتب. أمّا عن معنى «الوحدة» فهو لا يتعلّق بالمضامين الدلالية للغة قوميّة معيّنة، بل بقابلية استخدام معلوماتي «عالمي» لها بين مستعملين «عالميين» للحاسوب في أيّ مكان من الأرض. ومن ثَمّ فنحن أمام مشكلين غامضين يفترضان الطابع المزدوج لمنوال «الشفرة الموحدة» أو «اليونيكود»: المشكل الأول هو: هل يؤثّر التشفير المعلوماتي (أي تحويل «الحروف» الطبيعية إلى «محارف» رقميّة) على طبيعة اللّغة القوميّة أو على مضامينها الدلالية؟ - والمشكل الثاني هو: إلى أيّ مدى يمكن للتوحيد الرقمي أن يؤمّن استعمالاً «عالمياً» للغة خاصة بشعب دون آخر؟ إنّ أوّل وأكبر سمة في هذا المنوال المعلوماني الموحّد هو بلا ريب كونه قابلاً للاستعمال العالمي للحروف الرقميّة أو «المحارف» ومن ثَمّ يمكن أن يدّعي صلاحية كونية. والعالمية تعني هنا أنّه يمكن إنتاج «النصوص» من خلال معالجتها معلوماتيّاً وكأنّها قابلة للترجمة الرقميّة التي بإمكانها أن تؤمّن تداولاً بلا حدود. كلّ حاسوب هو آلة ترجمة ضخمة تحوّل الحروف القوميّة إلى أرقام بلا أيّ مضمون قومي. وهكذا فإنّ ما يجعل لغة قوميّة ما قابلة للاستعمال المعلوماتي على الحاسوب هو أمر مختلف تماماً وغريب تماماً عن خصائصها النحويّة أو الصرفيّة التي تتميّز بها من حيث هي لغة طبيعية. ومن ثمّ فإنّه لا معنى لأيّ تخرّص أنثروبولوجي على أيّ لغة قوميّة باتهامها بكونها لا تصلح لإنتاج العلم أو بأنّها لا تلائم التطوّر المعلوماتي للعلوم أو للثقافة «الغربية»، بل إنّ عمل الحاسوب يقتضي وجود فجوة بنيوية بين الحروف القوميّة وبين المعرّفات أو المحارف الرقميّة. وحدها هذه الفجوة تجعل عمل «الترجمة» المعلوماتيّة ممكنة. كلّ استعمال للحاسوب هو إجراء ترجميّ بحت يؤمّن العبور الشكلي في كل لحظة وفي كل إيماءة بين لغة قوميّة وبين ما يقابل هذه اللغة على مستوى معلوماتي دون أن يكون له أيّ مضمون قومي. يمكن أن نجيب عن المشكلين السابقين كما يلي: إنّ التشفير المعلوماتي هو ترجمة بحتة، ومن ثمّ هو لا يؤثّر أبداً على طبيعة أيّ لغة قوميّة. كما أنّ التوحيد الرقمي للحروف القوميّة هو بالفعل يؤمّن استعمالاً عالميّاً لأيّ لغة خاصة. ومع ذلك فإنّ هاتين الإجابتين تفضيان إلى صعوبات جمّة على مستوى آخر. تكمن الصعوبة الأولى في أنّ التشفير هو في واقع الأمر يترك اللّغات على حالها «القومي»، ومن ثَمّ فإنّ دخول أيّ لغة قوميّة في حيّز الاستعمال المعلوماتي هو ليس دليلاً أبداً على أنّ تغييراً عميقاً قد حدث في تمثّل تلك اللغة لذاتها أو لعالمها الدلالي أو لسياستها التداولية. ثمّة ما يشبه الغربة المعلوماتيّة التي تصيب اللّغات من خارج دون أن تلج أبداً إلى عالمها. وليس أكثر إساءة أخلاقية من معاملة لغة من خارج عالم المعنى الخاص بها: نعني كتابتها دون تكلّمها، مثلاً، ولكن خاصة معاملتها وكأنّها مجموعة من المحارف الرقميّة التي يمكن أن «تشير» (على مستوى سيميوطيقي) إلى أيّ حروف أو لغات قوميّة «أخرى». فالأرقام أو المعرّفات الرقميّة هي خالية من أيّ توقيع هوويّ، بل هي حيلة العقل الغربي في ترجمة لغات الشعوب الأخرى إلى «لغة» رقميّة بلا أيّ مضمون «روحي». والسؤال هو: هل من «مصلحة» اللغة القوميّة أن تمرّ في الفضاء الرقمي دون أيّ تغيير في نواتها الدلالية أم أنّ الترجمة المعلوماتيّة يمكن أن تجعل لغتنا «تقول» نفسها من جديد في أفق دلالي أو تداولي «آخر»، أكثر ثراءً رمزيّاً وأكثر نجاعة تواصليّة؟ كذلك توجد صعوبة موازية على مستوى ادّعاءات الكونية التي يحتوي عليها «توحيد» الشفرة المعلوماتيّة بشكل رقمي بحت. لا يكفي أن تُقال جملة لغويّة ما بواسطة «شفرة موحّدة» أو منوال رقمي موحّد بين مستعملي الحاسوب أو على شبكة الإنترنت حتى نضمن الطابع «الكوني» لما نقول. إنّ الاستعمال «الموحّد» لحماقة خاصة لا يجعل منها حكمة «كونيّة». إنّ الكونيّ ليس واحداً إلّا عرضاً. وعلينا أن نسأل عندئذ: هل يقف ادّعاء العالمية في ثقافتنا عند حَدّ الترجمة الرقميّة إلى «لغة» حاسوبيّة بلا أيّ توقيع هوويّ إلّا عرضاً؟ إنّ علاقة اللّغة العربية (وأيّ لغة أخرى حتى الإنجليزية نفسها) بالمنوال المعلوماتي هي علاقة «عرضيّة» تماماً. وليس في هذا أيّ قدح في أصالتها الروحية. إنّ الصعوبة أكثر حدّة من الاختلاف الثّقافي بين اللّغات، بل هو ما يلي: لا يمكن ترجمة الحروف إلى مجرد أرقام، لأنّه لا يمكن ترجمة «عالم المعنى» في «الفضاء الرقمي». وإلى حَدّ الآن لم يوجد شعب «رقمي». كل الشعوب هي إلى حَدّ الآن شعوب ذات حروف قوميّة. من أجل ذلك، على الإنترنت لا يوجد عالم، بل فضاء هلاميّ بلا معنى. وإنّ أعمق أنواع الفعل الرمزي على الإنترنت هو «الاستعمال» بما هو كذلك. ونحن ربما كنّا أوّل كائنات استعماليّة بحتة، مدعوّة إلى العيش في عالم استعماليّ محض بلا أيّة أصالة. لقد تمّ تحويل علاقة البشر بأدواتهم الرمزية إلى مجرّد علاقة إجرائية صرفة، ودخلنا في عصر الاستعمال البحت. ونحن نشعر بخيبة أمل كبيرة في ماهية العقل المعلوماتي من حيث علاقته باللّغات القوميّة: كنّا نأمل أن تؤدّي الترجمة الرقميّة للحروف القوميّة إلى إحداث تغيير عميق وخطير في بنى الكلام البشري، بحيث قد يمكن لبعض اللّغات أن تتمكّن من التحرّر من براثن النحو التقليدي الذي قامت عليه. والنحو هو بنية استبداديّة لتصوّر جامد للغة في لحظة من تاريخها، لا غير. وعلينا أن نتساءل: ما هو مستقبل اللّغات القوميّة بعامة؟ هل فعلاً أنّ منوال «اليونيكود» هو مجرّد منظومة إجرائية لتوحيد الاستعمالات البشرية والاستخدامات الآلية لنفس الحروف أو نفس اللّغات بين المشتركين في الانتماء أو في عالم الحياة الخاص بشعب ما، من دون أيّ مساس بمضامينها الدلالية والتداولية؛ أم هو يفتح في غموضه وصعوبته على عصر جديد من استعمال اللّغات بين البشر قد يؤدّي في لحظة ما إلى اختراع لغة «كونية» لطالما حلم الفلاسفة بالعثور عليها منذ أن فكّر أفلاطون في التعبير عن «مثالات» العقل بواسطة «الأعداد»؟