ليلة بديعة في قلب الزمالك، في مركز الفنون، حيث تتجمع تحف فنية رائعة من أعمال الفخار، أحد أسرار الحضارة المصرية، والمناسبة كانت حصولي على جائزة الشاعر "كفافيس" في الرواية، حفل أنيق أقامته السفارة اليونانية، وحضرته الشاعرة الإماراتية ميسون صقر التي شاركتني في الفوز بجائزة الشعر، ونخبة من أدباء مصر الكرام ورجال الإعلام، فضلا عن بعض رجال الأعمال ذوي الأصول اليونانية، أبرز ما في الحفل هو القراءات الشعرية التي قام بها الشاعر فاروق شوشة بصوته الرخيم، عليه رحمة الله، كانت اللغة العربية تبدو أجمل على لسانه، قرأ علينا مختارات من شعر قسطنطين كفافيس، وأهمها قصيدته "إيثاكا"، المدينة الأسطورية التي تبدو كحقيقة وتتبدد كسراب، عشر سنوات وإديسيوس يخوض غمار البحر، ويحمل غضبة "بوسيدون" إله البحر من أجل الوصول إليها، هذا ما جعلني أعود للبيت وأبدأ في تصفح ملحمة "الأوديسا" مرة أخرى. إنها قصيدة طويلة مكونة من 12 ألفا ومئة بيت، رغم مئات السنين التي مرت عليها ما زالت واحدة من أهم الكتب في تراث البشرية، ويتعامل "هوميرس" مع أحداث الملحمة مثل أي روائي معاصر، يبدأ من منتصف القصة، من لحظة الذروة، ثم يعود للماضي دون أن يستغرق في تفاصيله طويلا، يمر عليها سريعا ليصل إلى الأربعين يوما الأخيرة من الرحلة التي استغرقت عشر سنوات كاملة، يبدأ من نقطة التوتر، يقدم درسا قديما متجددا لكل الكتاب الذين يبدؤون من منطقة الصفر، عندما شرع تليماك ابن أوديسيوس في البحث عن أبيه، ثم ينتقل مع البطل وهو يحكي مغامرته بعد سقوط طروادة، ومحاولته العودة إلى إيثاكا ليستعيد شخصيته كزوج وكأب وملك، ينتقم من كل الذين يريدون سرقة زوجته ويستولون على عرشه، ولكن رحلة العودة لم تكن مستقيمة ولكن تدور في دوائر، فهو يترك المكان ليعود إليه مرة أخرى دون سبب، وأخيرا هناك الدائرة الكبرى التي عادت به إلى إيثاكا. لقد استغرقت الحرب على طروادة عشر سنوات، ولكن جيوش اليونانيين عجزت عن اقتحام أسوارها، وكان على أوديسيوس أن يلجأ للحيلة، صنع الحصان الخشبي وأدخل الجنود إلى المدينة، لقد أثبت أنه بطل إغريقي مختلف، يلجأ للحيلة بديلا عن الشجاعة، ولا يكف عن اللف والدوران ولا يتورع عن الكذب حتى يحقق أغراضه، ولكنه لا يستطيع شيئا إزاء غضبة "بوسيدون" ، في أول جزيرة يتم حبسه بواسطة الحورية كاليبسو، التي كانت تريد أن تتزوجه رغم إصراره على العودة إلى زوجته بنولبي، أسيرا لسحرها أم لرغبة قاتلة، المهم أن الآلهة فقط هي التي تمكنه من الإفلات منها، يهلك بعض من بحارته بسبب تهورهم، ويقوده الموج الهائل إلى بلاد تأكل زهرة اللوتس، مصر أم ليبيا؟ لا أحد يعرف، ولكن اللوتس هي زهرة النسيان، كل من يأخذها يود البقاء، لولا أن أوديسيوس ينقذهم، ثم يقعون في أسر السيكلوب، العملاق ذو العين الواحدة، وينجحون في الإفلات منه بعد أن يفقأوا عينه الواحدة، وبعد عدة مغامرات يذهبون إلى جزيرة الساحرة تسريس التي تحول رجاله إلى خنازير وتجعله عشيقا لها، كان دائما محظوظا مع النساء، ومرة أخرى تتدخل الآلهة لإنقاذه وتعطيه عشبة خاصة تنقذه هو ورجاله. المشكلة الحقيقية كانت داخل بيته في إيثاكا، فالابن تليماك الذي كان طفلا عندما غادر أبوه للحرب، أصبح الآن شابا في العشرين، عليه أن يتعامل مع كل الأمراء الأوباش الذين تدفقوا على بيته، كلهم يريدون أن يتزوجوا أمه بنولبي ويصبحوا ملوكا على المدينة، ورغم أنها ترفض فهم لا يغادرون، يحتلون القصر ويستنزفون ما فيه من طعام وخمر، يطاردون الخادمات ويغوونهن، كان النسيج الاجتماعي في الجزيرة قد تلاشى، بعض الناس كان وفيا لأوديسيوس والبعض الآخر انساق مع الضيوف، هكذا بدت إيثاكا في غياب البطل، أزمات وإغواء وامتهان لسمعة الزوجة وابنها، لكن أوديسيوس عاد، تنكر في زي شحاذ حتى يستطيع أن ينفذ إلى داخل المدينة، ويرى الأمراء الذي يعيثون فسادا في قصره بل ويتسلل إلى غرفة زوجته، كانت بنولبي هي رمز الانتظار الطويل والوفاء الآسر للزوج، كانت تغزل ثوبا على نولها، وقالت للجميع إنها لن تتزوج قبل أن تتم غزل الثوب، ولكنها كانت تفك في الليل كل ما غزلته في النهار، واستطاع أوديسيوس باستخدام الحيلة والخداع أن يهزم أعداءه ويقتلهم جميعا. ولكن لماذا ركزت الرواية في البداية على الابن وليس على الأب الذي اكتسب شهرته كبطل للحرب؟ هل كان هدف الراوي أن يشوقنا لظهور البطل؟ أو ربما يريد أن يعطينا انطباعا مخالفا وهو أنه بطل خاسر، منبوذ، وربما كان مسجونا لا يملك القدرة على العودة، مختبئا عن كل الذين يهتمون لأمره؟ وبالطبع هناك لغز آخر، فالإلياذة تذكر أنه غادر إيثاكا في 12 سفينة مع مئات المقاتلين، فأين ذهبت بقية السفن ولم تبق إلا أوديسيوس وحده هو وبحارته، هل فقد كل رجاله؟ وهل يمكن أن ندعوه بطلا، هل كان يكذب على زوجته ويخونها مع كاليبسو على مدى سبع سنوات رغم أنه كان يدخل في نوبات من الصراخ حول حنينه للبيت، لقد كان يعتمد دائما على رحمة الأقدار، وكل نجاح حققه كان بفضل الآلهة، لا حاجة إذن لادعائه البطولة. قصيدة كفافي حول أشهر محطة للوصول في تاريخ الأدب، وربما كانت على العكس، حول فضيلة عدم الوصول، أنها واحدة من قصائد كثيرة نسجت حول بطل الأوديسا، في الكوميديا الإلهية عندما هبط إلى دانتي الجحيم وجد أوديسيوس يمارس خداعه ويبحر على حافة العالم، أصبح أوديسيوس بطلا في عصر الرومانسية، بطل قلق لا يكف عن الحركة والبحث والاكتشاف، في عام 1833 كتب الشاعر الفرد تنسيون كتب قصيدة بعنوان أوليسس، وهو مونولوج درامي يرويه بطل عجوز، مضى زمن عليه قبل أن يعود ويصبح ملك الخمول، كان كفافيس يعرف بهذه القصيدة ولكن قصيدته كانت أفضل منها، كانت مليئة بالرموز، والمقطع المنشور منها من ترجمة الصديق الشاعر د.رفعت سلام: وأنت تنطلق إلى إيثاكا فلتأمل أن تكون رحلتك طويلة حافلة بالمغامرة٬ حافلة بالاكتشاف لا تخف من الليستريجونيات والسيكلوبات وبوسيدون الغاضب لن تجد شيئا من ذلك في طريقك طالما احتفظت بأفكارك سامقة طالما مست روحك وجسدك الإثارة الرائعة لن تقابل الليستريجونيات والسيكلوبات ولا بوسيدون المتوحش ما لم تحملهم داخل روحك ما لم تضع روحك أمامك فلتأمل أن تكون رحلتك طويلة