بوجه شاحب أنهكه التعب والبأس ويد خشنة أصابتها تشققات الزمن ودرجة حرارة الفرن الحارقة التي تزيد على 1000 درجة مئوية، شاب فؤاد الأشقر، العامل الثلاثيني قبل أوان المشيب، يتحمل تلك الحرارة العالية كل يوم في نهار رمضان، وهو صائم ويرفض أن يفعل مثل باقي زملائه الذين ترهقهم مشقة العمل داخل المصانع عن الصيام. وكان الحرّيق الشاب يرتدي غطاء قماشيا أبيض على رأسه تحول إلى اللون الأحمر القاني من أثر رماد الطوب المحترق، والمتناثر في كل مكان ليحمي به رأسه الذي لم يخل من أثر الإصابات المتعددة نتيجة عمله الدائم بالمصنع. يرتدي الأشقر طوال وردية العمل قفازًا من القماش في يديه التي يجرّ بها فأسًا حديدية عريضة لسحب بقايا الرماد المحترق من نار الفرن أولًا بأول، ثم ينقل قدميه بخفة ويتحرك بحذر بين العلامات التي يحدد بها أماكن النيران المتقدة على الطوب الأخضر بدرجة حرارة عالية حتى تكتمل عملية الاحتراق ثم سرعان ما يرفع الحريق بقايا الطين الجاف الذي تحول إلى الرماد المحترق الذي يغطي به سطح الفرن، حتى يختمر الطوب الأخضر المرصوص بعناية فائقة، ويحترق ويزداد صلابة وقوة بعد عملية الاحتراق. يتحرك الحرّيق الشاب بانسيابية فوق سطح الفرن الملتهب ويرافقه عامل خمسيني أكل الشيب شعره ويتنقل فوق الفرن كعصفور النار يسير كأنه بهلوان حُر يمشي على الحبل حتى لا تتعثر قدماه، ويسقط مُحترِقًا وتضيع عليه اليومية المتواضعة للغاية التي لا تتماشى مع مشقة العمل الذي يقوم به ولا تتجاوز المائة جنيهًا، وهي الأكبر بين يوميات عمال المصنع. هكذا يقضي «الحرّيق» يومه الشاق الطويل في أجواء الصيام، متحملًا مشقته البالغة وصعوبة العمل اليدوي الشاق، متنقلًا بين أفران حرق الطوب الطفلي "الحُمرة"، الكائنة بمحافظة الغربية دون أدنى رعاية صحية أو اهتمام، وبلا تأمينات اجتماعية أو صحية عليه أو على باقي العمال البالغ عددهم 50 عاملا آخرين، باستثناء ثلاثة أو أربعة عمال من المقربين من صاحب المصنع، والبقية يعملون كالأجير الذي يعمل في «السخرة» ويُلقى إليه بالفُتات مع نهاية كل وردية، برغم عمله الشاق في مهنة لا يفصل بينها وبين الموت سوى طوبة. الاحتراق بنيران صديقة الحرّيق هو عامل محترف يحفر في الصخر ويتحرك في قلب الموت، ويتحمل لهيب الشمس كل يوم ونيران الفرن الأكثر احتراقًا، ويتخطى صعوبات الحياة اليومية في غرابة شديدة، وقسوة المهنة التي قلما يسلط أحد عليها الضوء، ليخفف عنهم ولو قدرا يسيرا من معاناتهم اليومية أو يرفع عنهم الغبار ويسمع أصواتهم التي احترقت في قلب النار مع الطوب. بدأنا جولتنا الميدانية بين عدد من مصانع الطوب في محافظة الغربية، التي تعد من أكبر محافظات الجمهورية إنتاجا للطوب الطفلي، وهي من الصناعات الملوثة للبيئة ومن المناطق التي تزداد بها نسبة الثلوث، فضلا عن صعوبة الحياة فيها، وبالرغم من تلك الحياة القاسية على عمال مصانع الطوب المقيمين هناك ليل نهار يتعرضون للأتربة والتلوث بصورة كبيرة فإنهم لا مورد رزق لهم سوى العمل بتلك المصانع مقابل يومية متدنية لا تكفي متطلبات المعيشة أو العلاج. المعاناة اليومية «الشغل في المصنع هيموتنا».. يقول الأشقر الذي كان يرفع آخر بقايا الرماد المحترق أعلى سطح الفرن حتى يتولى باقي العمال المهمة التالية الشاقة في حمل الطوب الأحمر من الفرن، و«تعتيقه» للبيع وتستمر المعاناة والوجع اليومي المتكرر الذي يتنفسه على مدى الساعة، وهو لا تغيب عن ذاكرته تلك الواقعة المريرة التي وقعت أحداثها قبل سنوات طويلة، ويتذكرها كل أبناء القرية الصغيرة الواقعة على أطراف الدلتا حين كان طفلًا صغيرًا يمر من أمام المصنع، وشاهد لهيب النار يأكل كل شيء في المكان حين سقط حرّيق الفرن «عم خيري» بين شظايا الطوب المحترق التي أكلت النيران جلده، ولم يتبق من جسده شيء. في تلك اللحظة خاف صاحب المصنع أن يدخل في سين وجيم، ورفض أن يحضر سيارة الإسعاف لنجدة العامل وتركه يحترق حتى مات.. الواقعة التي حفرت في رأسه منذ الصغر، ومع ذلك قرر أن يعمل في نفس المهنة «حريقًا» نظرًا لشدة حاجته إلى المال ولإنفاقه على أسرته المكونة من 6 أفراد في المراحل الدراسية المختلفة. أسوأ ما في الأمر أن الحريق وغالبية العمال لا يمتلكون أية حقوق لدى صاحب المصنع في رمضان، وفي باقي شهور العام، وهم أشبه ما يكونون بملك يمين صاحب المصنع، يحركهم كيفما شاء ويستغلهم في أي وقت دون تأمينات اجتماعية أو صحية ويومياتهم متدنية للغاية على عكس ما يقومون به في وردياتهم اليومية، وعند أقرب فرصة سرعان ما يتخلى عنهم. ضريبة المصانع «الحرّيق» ومعظم العمال بالمصنع يشكون من كثرة الأمراض الصدرية والربو وإصابات العظام والعيون، نتيجة نوبات التلوث التي يتعرضون لها وكمية الروائح والغازات النفاذة التي يتنفسونها بشكل يومي، ويكفي منظر العمال أنفسهم الذي تحول من كثرة التراب الذي يكسو ملامحهم بلون الطين تارة وشكل «الحمرة» تارة أخرى. حقوق ضائعة وتأمينات اجتماعية أصبحت أقرب إلى الخيال لم يلتفت إليها أحد، وأصحاب المصانع أذن من طين وأذن أخرى من عجين، كل همهم أن يمصوا دم العامل على مدى سنوات طويلة، وفي النهاية يُلقون إليهم بالفُتات، كأن «آخرة خدمة الغُز علقة»، وفي حالة تعرض العامل لإصابة طارئة في أثناء عمله، فإن أقصى ما يفعله صاحب المصنع أن يذهب به إلى أقرب مستشفى حكومي لإسعافه ويتخلى عنه عند أقرب فرصة ويبحث عن غيره حتى لا يلتزم تجاهه بأي شيء. «الحمير لا تتحمل ما نقوم به».. يقول عمال المصنع الغارقون بين نيران الفرن، ولقمة العيش التي يحصلون عليها بشق الأنفس، وانحصرت مطالب العمال في ضرورة تأمين صاحب المصنع عليهم اجتماعيًا وصحيًا بعد تلك السنوات الطويلة من العمل اليدوي، مع وضع معاش شهري للوفاة ومعاش آخر للإصابة لكي لا يفقدوا مصدر دخلهم الوحيد ويجلسوا بالبيت عاطلين عن العمل يتسولون قوت يومهم. عامل فقد يده يتذكر الأشقر في بداية عمله بالمصنع وعلى بعد خطوات من الفرن كانت أكوام الطوب الأخضر متناثرة على جانبي المكان، وهو يعمل في «تعتيق» الطوب الأخضر على العربة، وفي الجوار كان يقوم صديقه مجدي بتسليك بقايا الطوب فوق سير «الطحانة» أو «القطاعة»، كما يسمونها، لأنها تقطع كتل الطوب الكبيرة إلى أجزاء صغيرة، حيث يعملون في مهنة موت لا تقبل التردد لحظة، وحين لم ينتبه جيدًا للحظات قُطعت إحدى يديه خلال عمله على الطحانة منذ فترة، ولم يسأل فيه صاحب المصنع باتصال تليفوني أو زيارة، لأنه غير مُثبت أو مؤمن عليه، وبالتالي فلا دية له أو حقوق تذكر ليطالب بها رئيسه في العمل. قطع الحديث العامل، رضا شرارة، المرافق للحرّيق الشاب، الذي قال إنهم «مش لاقيين اللضى وظروفهم طين» ورغم حصوله على رخصة درجة أولى للقيادة فإنه آثر العمل على العصفور (الآلة الخشبية التي يحمل عليها الطوب المحترق من الفرن إلى السيارة تمهيدًا لبيعه)، نظرا لعدم وجود وظيفة أخرى غيرها في المنطقة، وكما يقولون «اللي رماك ع المر»، الأمنية الأخيرة البسيطة لذلك العامل الذي تخطى الأربعين عامًا أن يتزوج، ويجد وظيفة محترمة يأكل منها بالحلال. وصاحب المصنع يرد حملنا تلك المطالب العمالية المشروعة إلى صاحب المصنع الستيني (جبر.ا)، الذي ذكر أن هناك ثلاثة أرباع العمال العاملين بالمصنع مؤمن عليهم ويتقاضون أجورهم كاملة كأنهم يعملون في الحكومة وأكثر، وأقل عامل فيهم يتقاضى 600 جنيه أسبوعيًا نظير 6 ساعات عمل يومية. أما فيما يتعلق بإصابات العمال فيقول صاحب المصنع إنه ليس ملزما بعلاجهم، إنما يفعل ذلك ابتغاء وجه الله، وهذا الأمر لا يحدث في كل مصانع الطوب الطفلي الموجودة بالمحافظة ، قائلا: «العامل النهارده أفضل من الموظف الحكومي بسبعين مرة»، والمصنع غالبًا ما ينتج نحو 80 ألف طوبة خضراء يوميا، و60 ألف طوبة حمراء، وهو ما يجعل الأجور متفاوتة بصورة كبيرة تماما كالعمل في البورصة. كما أن التعامل المادي مع العمال يكون بالإنتاج، فمثلا الألف طوبة تعتيق (تحميل ونقل من الفرن إلى المقطورة) ب19 جنيها، وكذلك الألف طوبة خضراء ونقلها من المناشر (مكان وضع الطوب الأخضر) للفرن بنحو 15 جنيها للألف، كما يتقاضى عمال القطاعة (التي تقوم بتقطيع الطوب إلى قوالب) 14 جنيها في الألف الواحد ويتقاضى الحرّيق الأجر الأكبر بين عمال المصنع جميعًا لأنه يقوم بالمهمة الشاقة بين الجميع. وتكمن المشكلة الكبرى في عمال الفاعل أو ما يطلقون عليهم ب«الفواعلية» لأنهم متغيرون وغير ثابتين، حيث يجري العامل منهم وراء الجنيه الزيادة حسب تعبيره، فإذا أتي يوما فإنه يتغيب أسبوعا كاملا، مشيرا إلى أنه تم تثبيت نحو عشرين رئيسا للعمال بالمصنع مؤخرا وخمسة عمال آخرين مستمرون معنا، وجار تثبيت كل من يثبت استمراره في المصنع بصفة جدية خلال الآونة القادمة.