رحل جمال عبد الناصر لكن بقيت ذكراه الخالدة فمنذ اليوم الأول كانت خطواته واضحة وسريعة ومتلاحقة، فبعد أن تولى مقاليد الحكم قام بتحويل مصر من ملكية إلى جمهورية ليحقق لها الاستقلال الكامل عن الاستعمار البريطانى ويواجه سيطرة رأس المال والإقطاع وليحاول تلبية طموحات وآمال المصريين الذين لم يكونوا فى انتظاره أصلا ولكنه فاجأهم يوم 23 يوليو 1952. واليوم تمر ذكراه فى توقيت بالغ الدقة يتولى فيه مجلس عسكرى بقيادة المشير محمد حسين طنطاوى مقاليد الحكم فى البلاد بعد ستة عقود من وصول مجلس قيادة الثورة برئاسة البكباشى جمال عبد الناصر إلى الحكم. وجه الشبه الوحيد بين من تسلموا السلطة فى يوليو 1952 وما آلت إليه الأمور فى فبراير 2011، أن كليهما عسكرى، ولكن الفروق تبدو شاسعة عندما ننظر إلى ما قام به الضباط الأحرار فى الأشهر الأولى من حكمهم وما لم يقم به المجلس الأعلى للقوات المسلحة خلال الأشهر الثمانية الماضية فى الأسابيع الأولى من تولى الضباط الأحرار السلطة كانت قضية الضريبة التصاعدية وتحديد الملكية الزراعية مطروحة للمناقشة، وأقر بالفعل تحديد الملكية الزراعية بمئتى فدان، رغم المعارضة الشديدة، التى وصلت للمقاومة المسلحة من جانب كبار الملاك، وبموجب ذلك تمت مصادرة أراضى 111 من كبار الملاك من الملك وعائلته. وتلاه قرار بحل الأوقاف وتوزيعها على المستحقين، وتطبيق قرارات تحديد الملكية عليها، فى ما عدا الأوقاف الخيرية. وسبق هذا إلغاء الرتب والألقاب، وهو الإجراء الذى حمل إشارة إلغاء التمييز والتفاوت، حتى إن لم يكن له مردود اقتصادى مباشر. الموازنة التى صدرت فى أغسطس 52 تضمنت تخفيض نفقات الديوان الملكى من 800 إلى 500 ألف جنيه، إضافة إلى تخفيضات أخرى فى المصروفات السيادية. وقبل انتهاء سبتمبر كان مشروع إقامة مجمع للحديد والصلب مطروحا أمام السلطة، لتدخل به مصر عصر الصناعات الثقيلة، وفى مطلع أكتوبر تشكل المجلس الدائم للإنتاج لتطوير الصناعة. وبعد مرور ثلاثة أشهر على سلطتهم كان الضباط الأحرار يضمون قصر الزعفران الملكى لجامعة عين شمس، كما سبق وضم المقر الصيفى للحكومة بالإسكندرية لجامعة الإسكندرية، ضمن قصور أخرى خصصت للمنفعة العامة. كما تقرر تخصيص سيارة شعبية واحدة لكل وزير، وبيع السيارات الفاخرة التى تملكها الدولة بالمزاد. فى الفترة نفسها صدرت ثلاثة قوانين عمالية متعلقة بعقد العمل، والنقابات، والمنازعات العمالية. وكان قرار بوضع حد أدنى لأجر العامل الزراعى قد صدر بقيمة 18 قرشا يوميا، وهو ما يساوى، بحسب دراسة للخبير الاقتصادى أحمد النجار، 2000 جنيه شهريا فى هذه الأيام، وتشكيل لجنة لبناء 750 ألف منزل للفلاحين. وبدأت فى الفترة نفسها دراسة إنشاء السد العالى لتطوير الزراعة، وتوليد الكهرباء. هذه الإجراءات وغيرها مما أقدم عليه الضباط الأحرار منذ الأيام الأولى لتوليهم الحكم، لم تكن لتحدث تغييرات فورية فى حياة المصريين، التى تدهورت لعقود، ولكنها كانت رسالة قوية وواضحة للمجتمع المصرى، تعنى أن الذين يجلسون فى السلطة يعرفون ما يعانيه الشعب، ويعملون على رفع المعاناة. الرسالة التى وصلت من المجلس الأعلى للقوات المسلحة لم تكن بالقوة نفسها، ولا حتى المضمون نفسه. فرسالة السلطة الجديدة فى مصر كانت الاستمرار فى سياسات السوق نفسها، التى انتهجها النظام المخلوع، ورفض الحديث عن إعادة تأميم الشركات، التى بيعت بصفقات فاسدة، ورفض تطبيق الضرائب التصاعدية على الدخل. وعندما وضعت موازنة تضمنت ضريبة على الأرباح الموزعة والإدماج والاستحواذ، تراجع عنها سريعا تحت ضغط رجال الأعمال، ثم وضعت موازنة تقشفية يدفع فيها الفقراء ثمن عجز الموازنة الذى لم يصنعوه. لا يخلو التاريخ من مفارقات ذات معنى عميق. أسطول «أميال من الابتسامات» الذى يحمل مواد إغاثة لغزة المحاصرة والذى تعذر وصوله لمنع اليونان مروره يذكرنا بما حدث عقب 23 يوليو. عندما طاف قطار الرحمة محافظات مصر لجمع الإغاثة لفلسطين ووقف رئيس الوزراء محمد نجيب بنفسه فى وداع القطار الذى انطلق من القاهرة لإغاثة الفلسطينيين. كانت القواعد العسكرية البريطانية لا تزال قائمة فى مدن القناة بينما كانت خيارات الضباط الأحرار واضحة كما عبروا عنها فى أهدافهم «القضاء على الاستعمار وأعوانه». لذا كان من الوارد أن تشن مصر هجوما شديدا على ألمانيا بسبب موافقتها على منح تعويضات لإسرائيل واعتبرت ذلك عملا عدائيا. الفارق كبير بين هذا الموقف وقضية الغاز المصرى الذى يصدر لإسرائيل، وجل ما يمكن الوصول إليه بعد الثورة هو إعادة تسعيره إن أمكن لا وقفه أو حتى استعادة فروق الأسعار. المفارقات لا تنتهى، فالسودان الذى انفصل جنوبه قبل أيام كان من أولى القضايا التى تصدى لها الضباط الأحرار عقب يوليو ودخلوا فى مفاوضات مطولة هدفت إلى استقلاله وحماية وحدته. وفى التاسع والعشرين من أكتوبر 1952 تم فى القاهرة التوقيع على الاتفاق المصرى السودانى الذى تضمن الحكم الذاتى للسودان حتى تقرير المصير وتشكيل لجنة للسودنة. يبدو أن مصر المستعمرة ساعتها كان بوسعها أن تقوم بدور أكبر من اليوم حيث يجرى تقسيم السودان. على كل حال لم تبق مصر مستعمرة كثيرا عقب 23 يوليو فقد كانت قضية الجلاء من أولى القضايا التى طرحها الضباط الأحرار لا على مائدة التفاوض كما جرى فى أعقاب يوليو ولكن أيضا عبر دعم الكفاح المسلح فى مدن القناة ضد القواعد البريطانية. وهو ما يجتهد الضباط الأحرار فى إخفائه، فعبد الناصر تحدث صراحة عن «شن حرب عصابات ضد الإنجليز» وعندما سئل عن جدية حديثه قال: «إذا لم تجل قواتهم عن مصر فالتصريح قائم اليوم وفى المستقبل أيضا». ما قام به عبد اللطيف بغدادى فى عام 1953 عندما أنذر السفارة البريطانية بإخلاء طريق الكورنيش وأعطاها مهلة 48 ساعة، وعندما لم تنفذ أمر اللوادر باجتياح مبانى السفارة لفتح طريق الكورنيش بالقوة مسددا الضربة التى حطمت فك الأسد البريطانى لم يكن مفاجأة بالمرة، فما قام به الضباط الأحرار منذ اللحظة الأولى كان يؤكد أن الاستقلال والكرامة الوطنية فى صدارة مهامهم. ولم يعن ذلك بالطبع أنهم مقدمون على إعلان الحرب أو على إلغاء الاتفاقيات المبرمة أو القيام بأى مغامرة من أى نوع، بل كان يعنى أن الإرادة الشعبية التى عبرت عن عدائها ورفضها الهيمنة الاستعمارية والتبعية طوال عقود ستكون الموجه للقرار السياسى لا الاتفاقيات والمعاهدات التى اضطرت أى حكومة أو نظام التوقيعها فى وقت من الأوقات. لم يتم جلاء القوات البريطانية عن مدن القناة فى يوم وليلة ولكن ما استطاع الضباط الأحرار القيام به منذ اليوم الأول أن يبدؤوا طريق التحرر من التبعية والاستعمار ويعبروا عن موقفهم بوضوح حشد خلفهم تأييد الشعب. ما أعلن عقب تنحى مبارك كان مختلفا «مصر ملتزمة بجميع المعاهدات والاتفاقيات التى وقعت عليها». الرسالة واضحة لا تغيير فى السياسة الخارجية فاتفاقيات كامب ديفيد والكويز وتصدير الغاز محل التزام نظام ما بعد مبارك. الحقيقة أن الإجابة جاءت بلا سؤال، فقد كان ذلك تطوعا من طرف واحد. فى حين أن الحديث عن استقلال القرار الوطنى والحفاظ على السيادة وعدم الخضوع لأى ضغوط أو توجيهات خارجية وتفضيل إرادة الشعب ما كان ليعنى -إن قيل- إعلان حرب على أى طرف أو خرقا لأى اتفاق أو معاهدة. ولكن كالعادة كان الفارق بين ما أراده الضباط الأحرار وما يريده المجلس الأعلى. قبل انقضاء 72 ساعة من حركة الضباط الأحرار كان الملك فاروق خارج البلاد، وفى 22 ديسمبر صدر قرار بإسقاط الجنسية المصرية عنه، تطبيقا لقانون الغدر، وبدأت الاحتياطات الأولى تتخذ لإعمال العدالة، من أول القرارات التى اتخذها الضباط الأحرار من منع مغادرة البلاد إلا بإذن خاص حتى لا يهرب المطلوبون للعدالة، كان ذلك يوم 29 يوليو، وفى اليوم التالى صدرت قائمة بأسماء الممنوعين من مغادرة البلاد، وفى اليوم السابق كان قد تم الإفراج عن المعتقلين السابقين من مدنيين وعسكريين، وتم فى الوقت نفسه اعتقال بعض رجال الملك مثل كريم ثابت مستشار الملك الصحفى، وإلياس أندراوس مستشاره الاقتصادى، سبق ذلك الإجراء تحطيم جهاز مراقبة التليفونات الذى كان يستخدم فى التجسس لصالح القلم السياسى والقسم المخصوص.. وقبل نهاية الأسبوع الأول كان قرار قد صدر بحل القسم المخصوص بوزارة الداخلية وإلغاء أقسام القلم السياسى بالمحافظات. فى اليوم التالى تشكلت محكمة خاصة لمحاكمة الوزراء تضم ثمانية من مستشارى محكمة النقض، تلا ذلك فى الرابع من أغسطس 1952 إصدار قانون تطهير الأداة الحكومية وإنشاء لجان لتطهير الوزارات، والمصالح العامة، والهيئات، والبحث والتحقيق فى الجرائم، والمخالفات التى وقعت فيها، كما صدر فى اليوم نفسه قانون الكسب غير المشروع والذى ألزم موظفى الدولة بتقديم إقرارات الذمة المالية، وتشكل مجلس لمحاكمة الموظفين المسؤولين عن المخالفات المالية، وبدأت التحقيقات فى مضاربات السلطة لصالح أصحاب النفوذ.. ومن ناحية أخرى صدر عفو شامل عما سمى جرائم العيب فى الذات الملكية، وفى السادس من أغسطس كان قد ألغى قانون حظر نشر أخبار القصر. هذه بعض الإجراءات الفورية التى اتخذها الضباط الأحرار فى أقل من أسبوعين فقط، لكن الأجهزة الأمنية التى حلها الضباط الأحرار فى الأسبوع الأول من سلطتهم حافظ عليها المجلس الأعلى حتى اقتحمها الثوار، وساعتها فقط صدر القرار بتغيير اسمها من أمن الدولة للأمن الوطنى دون المساس بالجلادين الذين ساموا الشعب سوء العذاب لعقود.. وتستمر جرائم شاهدها المصريون على شاشات التليفزين كأنها ألغاز وطلاسم عصية على العدالة مثل اصطياد القناصة للثوار، ودهس مصفحات الداخلية للمتظاهرين، وفتح السجون للمجرمين لترويع المواطنين، وحتى اغتيال ضباط الشرطة الذين رفضوا المشاركة فى الجريمة مثل محمد البطران، الذى يشتبه باغتيال الداخلية له. فارق كبير بين الطريقة التى وصل بها الضباط الأحرار للحكم فى 1952 والطريقة التى آلت بها مقاليد الأمور فى مصر للمجلس الأعلى للقوات المسلحة فى 2011، فالجدل حول ما حدث فى يوليو ما زال دائرا يراه البعض ثورة، ويراه آخرون انقلابا عسكريا. بينما ما حدث فى 2011 يجمع العالم على أنه ثورة شعبية من أهم الثورات فى تاريخ العالم.. الضباط الأحرار الذين أطاحوا بالملك كان أكبرهم برتبة جنرال «لواء»، وكان القائد الفعلى مجرد بكباشى «مقدم»، وكانوا جميعا من صغار الضباط وأعمارهم فى أوائل الثلاثينيات. بينما المجلس الأعلى الذى نقل مبارك صلاحيته له بعد تخليه عن السلطة، لا يضم سوى كبار القادة. المجلس الأعلى سبق وصوله للسلطة ثورة الملايين واستشهاد المئات، بينما جاء الضباط الأحرار بهدوء أكثر، وعلى خلفية احتقان لم ينفجر، ورغم كل تلك الفروق وغيرها حظى الاثنان بنفس الحفاوة والتأييد من جموع المصريين والقوى السياسية. شرعية الضباط الأحرار حصلوا عليها عندما أشهروا سلاحهم فى وجه الملك، بينما شرعية المجلس الأعلى حصل عليها عندما التزم الحياد، وانعقدت الآمال على كل منهما فى التصدى لما عانى منه المصريون من استبداد وقهر وإفقار. فى 23 يوليو 2011 يمر على المجلس الأعلى للقوات المسلحة أكثر من 160 يوما فى اختبار السلطة، وهى ليست بالفترة الطويلة بالطبع، ولم يكن أحد ليتصور أن المجلس الأعلى يمتلك العصا السحرية التى يلبى بها كل مطالب المصريين بضربة واحدة. ما واجهه الضباط الأحرار بعد بيانهم، الذى بدأ بالعبارة الشهيرة «بنى وطنى»، كان يشبه إلى حد ما الذى واجهه المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بعد بيان مبارك الذى تلاه عمر سليمان، بادئا بعبارة «قرر السيد الرئيس». كان الفساد مستشريا فى الواقع المصرى والاستبداد يعوق أى انفتاح سياسى وحفنة من الملاك يستحوذون على ثروات المجتمع فى حماية النفوذ السياسى، ورغم الفارق بين بلد تحتله القواعد العسكرية البريطانية وبلد يوصف بأنه حليف لواشنطن، فإن الوضعين طرحا قضية الاستقلال الوطنى بدرجات متفاوتة، كانت التركة ثقيلة فى المرتين والآمال كانت عظيمة أيضا والخصوم كانوا متربصين، واليوم بعد مرور ما يقرب من ستة أشهر على تولى المجلس الأعلى شؤون البلاد، لا يستطيع أحد الادعاء بأنها فترة طويلة كان يمكن أن ينجز فيها الكثير. مما يطمح إليه من خرجوا ثائرين فى وجه النظام المخلوع، ولكن يمكن أيضا النظر إلى ما أنجزه الضباط الأحرار فى الأشهر الستة الأولى من توليهم الأمر فى 1952 وحتى فى الأيام الأولى بعد 23 يوليو، خصوصا أن كلا منهما الضباط الأحرار والمجلس الأعلى قد جاءا إلى الحكم بلا راية سياسية محددة حزبية أو مذهبية، وكلاهما تحمل عبء أزمات صنعها نظام مخلوع، ولكن لم يتخذ كل منهما نفس الخطوات بنفس السرعة، سواء على صعيد السياسات الاقتصادية والاجتماعية، أو على صعيد السياسة الخارجية، أو على صعيد إعمال العدالة ومحاسبة النظام المخلوع.. نعم هى فترة قصيرة للغاية بالنسبة إلى أى نظام حكم حتى أكثرها ثورية. قصيرة بالقياس إلى حجم المهام والتركة الثقيلة، ولكنها كانت تبدو كافية للضباط الأحرار، ليعبروا بوضوح وحسم عن إرادتهم وتوجههم الحقيقى، وأيا كان الاختلاف حول وصف ما جرى فى يوليو 1952 وما آلت إليه الأحداث لاحقا، ورغم الموقف من بعض ما قام به الضباط الأحرار مثل محاكمة عمال كفر الدوار أمام القضاء العسكرى، وإعدام اثنين من قادة إضرابهم، فإن ما قاموا به فى الأيام الأولى بعد عزل الملك فاروق وطرده من البلاد بإرادة وانحياز واضحين، يؤكد أن ما يفتقر إليه المجلس الأعلى للقوات المسلحة اليوم وبعد أكثر من 5 أشهر مما قرره «السيد الرئيس» من تخليه عن منصبه، ليس المزيد من الوقت.