داخل بدروم صغير للغاية يقع تحت الأرض لا تزيد مساحته على أمتار قليلة مُلحق بإحدى العقارات الواقعة في قرية ريفية هامشية لا يسمع عنها أحد تتبع إداريًا مدينة بني عبيد في محافظة الدقهلية كانت تقطن أم الخير السيد متولي، صاحبة الستين عامًا مع أسرتها الفقيرة المكونة من 5 بنات وولدين بعد أن طلقها زوجها إبراهيم محمد وتركهم وحدهم منذ أكثر من 10 سنوات وهم يعانون ثالوث «العوز والجوع والفقر» بصورة يومية في حياة بدائية أقرب ما تكون إلى حياة المخيمات واللاجئين الذين يعيشون على «كف عفريت» وينتقلون من بلد إلى آخر بحثًا عن خروج آمن ينتظرون رصاصة الرحمة الأخيرة من أجل الحياة أو الموت. حياتهم أشبه بالمنفى لا أحد يعولهم غير الأم الستينية ضعيفة السمع التي تعمل بالأجرة طوال اليوم متنقلة بين الأراضي الزراعية من أجل 50 أو 70 جنيهًا لا تكفي لشراء كيلو جرامًا من اللحم ولا تسد رمقهم، ورغم ذلك صبرت وتحملت كلام الناس باعتبارها مُطلقة ومشاق العمل اليومي الذي لم تعد صحتها تقوى على أوجاعه ومع ذلك ما تزال تعافر من أجل تربية أولادها وعلاج نجلها الصغير. تقيم الأسرة الريفية الصغيرة بعد زواج البنات الأربع داخل غرفة ضيقة كالقبر مساحتها لا تزيد على 20 مترًا تغطيها ستارة كانت بيضاء لكنها تهالكت، وسرير خشبي مهترئ تعلوه بطانية صوف متآكلة لا تحميهم حتى من برد الشتاء القارس، وفي الجوار غرفة أخرى جانبية يخصصونها للمطبخ وحفظ ما تبقى عندهم من أثاث وأواني وحجر كبير تجلس عليه الأم لطهي الطعام على بوتاجاز أكل الصدأ عينيه وأعمدته.. الجدران أيضًا مليئة بالتشققات والتصدعات والأرضية طينية غير مرصوفة والحوائط مرفوعة بالعروق الخشبية التي برزت النتوءات بها حتى صارت آيلة للسقوط بصورة تهدد حياتهم جميعًا ومستلزمات الأكل ملقاة على الأرض تتناثر في كل مكان في وضع بالغ السوء لا يتحمله أي إنسان. بعبارات مرّة يسكنها آلام الزمن قالت الأم المكلومة «أم الخير»، زوجى طلقني ورحل منذ 10 سنوات وترك لي 5 بنات وولدين أكبرهم 39 عامًا وأصغرهم 21 عاما ولم يسأل عنهم والدهم طوال هذه المدة ورغم ذلك لم أتخل عن أبنائي بسبب الفقر وفضلت أشتغل أجرية عند الناس لغاية ما جوزتهم بس هما غلابة مالهمش ضهر ولا سند من بعدي وظروفهم المعيشية صعبة جدا منهم اللي متزوجة هنا فى البلد ومنهم خارج بنى عبيد». بعد أن تنتهي من عملها في الحقول تعود في نهاية اليوم إلى البدروم محملة بالتعب والشقاء لتجاور ولديها علي وإبراهيم وشقيقتهم المطلقة هدى التي تعمل في عيادة أحد الأطباء في المدينة لمساعدتها في الإنفاق على ذويها متحملة جزءًا من مصروفات البيت، حيث إنها تسدد 300 جنيه ثابتة لإيجار الغرفة بالبدروم وليس لهم مصدر آخر للدخل سوى 320 جنيها معاش من الضمان الاجتماعي. «طول اليوم باسرح أنا وابني على شغل وباجري على عيالي وعاوزة أعمل عملية في ودني ومش عارفة إحنا حالتنا تصعب على الكافر».. تقول الأم التي تستيقظ فجر كل يوم وتبدأ رحلتها الطويلة في التنقل بين المزارع والحقول في الريف رغم أن ولدها الصغير لم تتمكن من تعليمه تلك المهنة التي تأكل منها عيش نظرًا لمرض في عقله حيث يعامل معاملة الأطفال. هدى الصغيرة ثلاثينية أجرت 6 عمليات جراحية في مستشفى الجامعة عبر تبرعات من أهل الخير وهي الآن ترافق والدتها الكبيرة وأشقائها الصغار لمساعدتهم في أعمال البيت بعد أن كبر سن الوالدة وأصبحت غير قادرة على العمل كما كانت، وبدأت الابنة تعمل في الأعمال اليدوية عند الناس وتقوم بالطبخ والنظافة في المنازل لأكثر من 12 ساعة يوميا بمقابل مادي متواضع، حتى ضجت بمن تعمل عندهم بعد أن رفضوا زيادة يوميتها أكثر من مرة والوضع أيضًا لم يقل سوءًا عند شقيقها الأصغر علي إبراهيم الذي يرافق والدتها في عملها داخل الحقول الزراعية رغم أنه يعاني من مشاكل صحية في رأسه ولا يتحمل ما تتحمله. علي يردد من حين لآخر عبارات يحفظها من أمه، «إحنا غلابة وأنا متعلمتش وبروح مع أمى الشغل عشان أساعدها» ويخشى من اللعب مع أقرانه في الشارع لأنهم ينبذونه ويقذفونه بالحجارة لدرجة أن أحدهم حاول ذات مرة التعدي عليه بالضرب وحين دافع عن نفسه وضربه جاء أهله وأوسعوه ضربًا لأنهم لا سند أو حامي لهم -عشان مستهترين بينا ومالناش حد-.