أجلس فى السيارة فى طريقى من سيجوفيا إلى مطار مدريد، أجلس خلف السائق، إلى جوارى فتاة مكسيكية وإلى جوار السائق صديقة لها، كانت تحضر نفس المهرجان الأدبى المعروف باسم مهرجان الحصاد. أستمع إليها وهى تتحدث إلى السائق فيذكرنى حرف الثاء -المتكرر كثيرا فى اللغة الإسبانية- بنكتة العصفور بعد أن اكتشف الرئيس أن لسان العصفور مقو جنسى. فكرت فى النكتة. ويا للعجب! قطعت حديثها الإسبانى الذى لا أفهمه والتفتت إلىّ وقالت «إننا نتحدث عن اللهجة الإسبانية، لا تقلق، الحديث ليس مثيرا». اندهشت لحظة ثم قلت لها: «وأنا أحب لهجتك الإسبانية، لذلك فإن الحديث مثير». فضحكت. كنت أنظر إلى حركة شفتيها العجيبة. هذا شىء يلفت نظرى كثيرا فى النساء وهن يتحدثن. أقول لنفسى: أريد أن أكون آدم فى الجنة، ويكون موسم الحصاد، ويكون محظورا علىّ قطف العنب بفمى، لكننى أعصى الأوامر وأقطفه. لن تكون العملية نظيفة تماما. ستنفجر بعض حبات العنب وتسيل على جانبى شفتى. قد يطاردنى النحل ليسرق من هذا الرحيق.. سأغمض عينى وأدعه يفعل ذلك. سأتركه يتجمع على وجهى ويلدغنى. سأترك جسمه المزغب يدغدغ جلدى. لن يطاوعنى قلبى على منعه. لا متعة دون ألم، ثم إن لدغ النحل يخلص من الروماتيزم، وأنا أعانى من روماتيزم مزمن فى مشاعرى، وأريد، الآن أريد، أن أتعالج منه.. سأنام فى الرمل الساخن لو كان هذا الثمن. سأسبح فى بركة من ماء الكبريت.. لن أعصى آلهتى مرة أخرى.. سأفعل كل ما يأمروننى به. أترقب التفاتتها إلى السائق من حين إلى آخر. هو مشغول بالطريق وأنا مشغول بها. تصمت لحظات فأوشك على أن أتوسل إليها أن تعود إلى إحداث هذا الضجيج «الكمانى» مرة كمان. أريد أن أخرج هاتفى المحمول وأصورها من زاويتى تلك، أن أقترب بالكاميرا من شفتيها وما يحيط بهما وأنقل إليكم ما يعجز الكلام عن نقله. حركة شفتيها بين الضم والفتح -ضم امرأة لشفتيها فن فطرى، ونسيانهما مضمومتين فى فترات الراحة فن تلقائى، والأسنان التى لكل واحدة شكل ثقة بالنفس، والغمازات المتعددة الأحجام فتنة. لديها واحدة صغيرة فوق طرف الشفة العليا مباشرة، وواحدة أكبر، لكنها ليست عميقة كثيرا تحت طرف الشفة السفلى مباشرة، وكلاهما حد، علوى وسفلى، لثنية جلد الوجه «المبتسمة» حول فمها. ثنية جلد مبتسمة؟ نعم. صوتها يمر بشىء فى حلقها فيرتعش هذا «الشىء» وتختلط الرعشة بالصوت الواثق. تغير نبرات صوتها وهى تتحدث اللغة التى لا أفهمها، فيضحكون وأضحك أيضا. تتثاءب وهى تتحدث فتتكاسل عن إكمال الجملة. لا تتعجل التقاط انتباه مستمعيها، بل تشوقهم، واثقة أنهم تواقون إلى الانتباه لها، كمايسترو يلعب بالصمت والصوت. من يستطيع أن يقاوم هذا السحر المتواصل؟ لا تتوقف عن الكلام ولا يتوقفان عن التفاعل. يا لفتنة الحكى بالنسبة لرجل صموت مثلى! يا لفتنة المرح بالنسبة لرجل شعاره فى الحياة «عُدّ الناس كسكان القبور»! هذا السائق الشاب لن يمانع حادثة تودى بحياته وحياتنا بينما يستمع إليها. بمرور الوقت صار أقل انتباها للطريق وأكثر انتباها لها ولنوادرها- لا يتوقف عن الضحك، وعن الالتفات نحوها، وعن الميل قليلا قليلا نحو كرسيها. أتابع حزام الأمان وهو يُسحب ببطء إذ يميل السائق نحوها حتى آخر حد ما يسمح. أتساءل ماذا يحدث لو كانت هذه الرحلة قبل اختراع الحزام، وقبل صياغة مفهوم الأمان. أنظر إلى المرآة الصغيرة فوق مرآة السائق فأرى فيها وجهه كله. فى لحظات الصمت القليلة لا يتوقف عن الابتسام. لا شك أنه يتذوق حلاوة كلماتها السابقة التى تمر من أذنه وتستقر فى حلقه. فى البداية كان إذا صمتت ينصاع للصمت حتى تبدأ هى الحديث مرة أخرى. الآن تشجع، صار إذا صمتت يقول جملة قصيرة ثم يستمتع بالإنصات. يخلع نظارته ثم يرتديها، يمشى أصابعه فى شعره، يهرش فيه، يمشى إصبعه على جانب فمه، يحك كتفه بحزام الأمان ببطء، ذهابا وإيابا، ذهابا وإيابا، ذهابا وإيابا.