مع اقتراب نهاية عام 2017، ودّعت مصر الكاتب الصحفي والمؤرخ اليساري صلاح عيسى، الذي رحل بعد ما يقرب من ثمانى عقود، قضى نصفها في بلاط صاحبة الجلالة، يبحث ويكتب ويؤرخ ويشاغب ويتعلم ويُعلِم ويتنقل بين رئاسة تحرير مؤسسة وأخرى بتوجهات متباينة من اليسار إلى اليمين، وكان الجميع رفاقًا وفرقاء في انتظار إلقاء نظرة الوداع الأخيرة على من دوّن حكاوي الصحافة على دفتر مطبوع بختم الوطن، وشُيعت جنازته ظهر اليوم الثلاثاء من مسجد الحصري بمدينة السادس من أكتوبر، في مشهد حزين لم يخل من مشاهد عدّة لكاتب وباحث وسياسي لم يكف عن النشاط والكتابة حتى الرمق الأخير. الوداع الأخير زحام شديد وترقب أكبر وكاميرات تطوق المسجد من كل مكان تترقب وصول جثمان الكاتب، الذي رحل مساء أمس الإثنين، تاركًا خلفه مؤلفات تاريخية وأدبية وثقافية ووثائقية قيمة تزيد على 35 مؤلفًا ومرجعًا بذل فيها من الجهد والتدقيق سنوات طويلة، غيب الموت عيسى عن المشهد، وترك رفقاء الدرب وشخوص كتاباته من المثقفين والعسكر، والشخصيات الأخرى التي لها العجب والشخصيات العادية من زمان ليس كذلك. الازدحام والكاميرات كانت تتكدس على باب المسجد، الذي كان يخلو من أي تواجد أمني قبل وصول جثمان المتوفى بصورة دفعت أكثر من شخص عابر لسؤال الباعة الجائلين لمعرفة أسباب الزحام المفاجئ على غير العادة: هو مين اللي مات؟ فيخبره أحدهم أنه صلاح عيسى، البعض منهم يتعجب ولسان حاله مين صلاح عيسى بيشتغل إيه يعني؟ فيأتي الرد حينًا بأنه أديب مشهور، ويقول آخر إنه صحفي كبير، لكن أحدهم قال 3 كلمات لا تزال عالقة في الأذهان وتصفه بكل دقة: "مصري مهموم بالكتابة"، خفيف الظل العميق فى الإهبارية، الذي تشم في كتاباته رائحة الملايين من المواطنين الأصليين أبناء هذا الوطن، الذين ينصب عليهم العذاب ألوانًا، ويقاومون كل ذلك بالحلم والسخرية، وهو يقاوم أيضًا بالكتابة والبحث والتوثيق والتأريخ عن الوضع الثقافي والسياسي والتاريخي وأحوال البلاد والعباد. في الجوار كانت السيارات الملاكي تتراص على الصف الأول من الشارع الرئيسي في شكل منتظم تبدو كأنها هي الأخرى جاءت لتودع صاحب "تباريح جريح" و"رجال ريا وسكينة " و"صك المؤامرة .. وعد بلفور" و"هوامش المقريزي" و"مأساة مدام فهمي" و"حكايات من دفتر الوطن"، الذى يقول فيه إلى مصر قضائي الذي أعانقه وقدري الذي أحتضنه، وأين يهرب المريد وشوقه قضاؤه وقلبه قدره. الحزن يليق بهم شخصيات مصرية من تيارات مختلفة حرصت على الحضور، وقطعت المسافات الطويلة من أجل إلقاء السلام الأخير على مؤرخ الصحافة المصرية، الذي غيب الموت حضوره من الأحزاب اليسارية والناصرية والليبرالية وصحفيين من مختلف المؤسسات والصحف القومية والخاصة والحزبية يتقدمهم رفقاؤه في المهنة أكرم القصاص وسيد محمود وإبراهيم منصور وأحمد السيد النجار وحمدي عبد الرحيم ومحمد الشماع، وآخرون الحزن يليق بهم، وعدد من لاعبي الكرة يتقدمهم الكابتن ربيع ياسين وشادي محمد وجميع أعضاء مجلس النقابة الحاليين والسابقين والنقيب السابق يحيى قلاش كان حاضرًا من قبل الصلاة، ولكن النقيب الحالي للصحفيين لم يحضر بعد، المشهد كان يخلو أيضًا من أي تواجد لنجوم الفن والدراما والمسرح وأعضاء مجلس النواب، وكذلك رؤساء الأحزاب الدينية والقيادات الرسمية بالدولة باستثناء حلمي النمنم، وزيرالثقافة. النمنم الذي جاء في حراسة أمنية مشددة ودخل إلى المسجد برفقة اثنين "بودي جارد" يرافقانه كظله حتى ينتهي من مراسم تشييع الجنازة وفي الصف الخلفي كان يجلس الكاتب الصحفي مكرم محمد أحمد، رئيس الهيئة الوطنية للصحافة على كرسي بلاستيكي، وفي يده عكاز خشبي ينتظر مؤذن المسجد ليقيم صلاة الظهر، الجميع كان يقترب منه ليلقي عليه السلام. الكرة في الجنازة تحول مسجد الحصري إلى ما يشبه سرادق عزاء كبير وملتقى واسع للنقاش والحكي، لجماعات مختلفة تجتمع قبل الصلاة وتتحدث عن مباريات فريقي الأهلي والزمالك مع بتروجت والأسيوطي يومي الجمعة والسبت المقبلين الذي يوافق يوم عزاء الكاتب صلاح عيسى، يتذكر أحدهم أن المجلة الرياضية سوف تُطبع اليوم، وتوزع في الشارع غدًا، ويجب أن ينزل النعي في هذا العدد، يقطع الحديث أحد المارين لإلقاء السلام على نجم الأهلي السابق، ويعود الحديث مجددًا عن "الكورة" والنعش الذي يحمل جثمان الكاتب الراحل لا يبعد سوى أمتار قليلة عنهم. أربعة نعوش خشبية كانت تتقدم الصفوف لمواطنين عاديين يشيعهم ذووهم بعد أن سقطوا من بؤرة اهتمام العدسات التليفزيونية التي يمتلئ بها محراب المسجد ممن يسلطون أضواء الكاميرات على خامس النعوش للكاتب صلاح عيسى، الذي كان نعشه مميزًا عن سابقيه بأنه مصنوع من الألوميتال الخالص، وما أن انتهى الجمع من الصلاة تقدم وزير الثقافة الصفوف، والتف مع فريق من الكتاب في صف واحد حول جثمان عيسى ليقرأون الفاتحة على روحه الطاهرة، التي غادرت أرض الوطن. فى حضرة جنازة عيسى يتنامى ذلك الشعور الاستثنائى النادر بالدفء والثقة والأمل الممزوجة بالحزن والبكاء في وداع مؤرخ يسبق عصره، وصحفي مفوه بليغ يرتقي بلغة الكتابة إلى درجة لم يصل إليها إلا القلائل بأسلوب فصيح ولغة مدققة تجمع بين البساطة والعمق والسخرية والألم والحكي والتأريخ سائرًا على درب المقريزي والجبرتي، كما أورد في "هوامش المقريزى" و"حكايات من مصر" و"تباريح جريح" و"شخصيات لها العجب". الذي يكتب لا يموت "لا أحد يهزم الأحلام والذي يكتب لا يموت".. هكذا دوّن عيسى في حكاياته على دفتر الوطن، والذي يؤرخ من خلال أجزائه العشرة لتاريخ مصر منذ ثورة 1952 حتى عام 2009 التقط الكلمات النقيب السابق للصحفيين الذي أكد ل"التحرير" أن أحلام الراحل صلاح عيسى تحولت إلى تشريعات تخدم شباب الصحفيين، الذين كان أحرص الناس على توليهم مناصب قيادية، وترجم ذلك عبر قانون الصحافة الموحد. عيسى النقابي لم يتوان لحظة عن الدفاع عن حرية الصحافة وخلق مجتمع ديمقراطي، يقول النقيب السابق إنه كانت له بصمة واضحة في معركة الصحافة مع السلطة في قانون 93 لسنة 1995، الذي اعترض على مواده التي تعد عدوانًا على حقوق الإنسان وإهدارًا لحرية الصحافة ورفع شعاره الشهير "الحادثات الباقيات" في الإشارة إلى 10 مواد من القانون كان يجري الالتفاف عليهم لتقييد حرية الصحافة ونجح في إسقاط القانون مع رفقاء المهنة، وكانت أخر معاركه أن يرى القانون الموحد للصحافة والإعلام النور دون تجزئة أو التفاف كما حدث مع سابقه. قلاش نعى رفيق دربه بكلماته "الأحلام لا تموت، بل تنتصر في النهاية، وصلاح لم يمت محبطًا، رغم إحباط أحلامه". سلام مربع للوطن الذي أنجبك يقول عنه رفيق دربه سيد كراوية، إنه رغم ما أصابه من لوم وهجوم وشماتة من جماعات دينية أثناء مرضه، فاستمراره فى الجهد البحثى والسياسى لم يتأثر، وكتاباته الرائدة من أول الثورة العرابية، وحتى بحثه النادر فى الثقافة العربية عن "ريا وسكينة" مرورًا "بالبرجوازية المصرية" و"الطرد خارج الحلبة" و"مقدمة محاكمة فؤاد سراج الدين"، وهو يعمق لفكرة النضال الديمقراطى كمهمة منتقلة للطبقات الشعبية وتعميق الخط الشعبى ودوره فى الحركة الوطنية المصرية عبر كتاباته "المقريزى وهوامش على دفتر الوطن وجذور النضال المصرى". صلاح عيسى، الذى احتفظ بطاقته على المبادرة دائمًا، وفى وقت كان الحصار مطبقًا كان شعلة من الحركة، وحتى وهو مطارد من الأمن لأكثر من 3 شهور لم يكف عن الحركة، واشتراكه فى مظاهرة رفض التواجد الإسرائيلى فى معرض القاهرة للكتاب.. هذا هو الذى نتذكره، وهذا هو الذى نودعه بكل الفخر والحزن معًا، وهذا هو الذى نقول له كما قال لطه حسين: "سلام مربع للوطن الذى أنجبك".