أدت الثورة الإيرانية، وصعود سلطة الملالي/ آيات الله، والتغيير الجذري في طبيعة الدولة والنظام السياسي إلى دولة الولى الفقيه الدينية/ المذهبية، إلى نمو الشهية التوسعية الإمبراطورية في الإقليم العربي، وساعدها على ذلك عديد الاعتبارات التي يمكن تحديد أهمها على النحو التالي: 1- فشل استراتيجيات بناء التكامل الوطني في بعض الدول والمجتمعات العربية ذات التكوينات الانقسامية، -على نحو ما أشرنا سابقًا- في تكوين أنسجة وتفاعلات اجتماعية فوق المكونات الأولية وداخلها، ومن ثم تعثر عملية تشكيل الأمة -بالمفهوم الحديث والمعاصر- أو الوطنية- وفق التعبير العربي الشائع-، وهو ما ظهرت تجلياته ولا تزال في الصدوع الاجتماعية بين المكونات الدينية والمذهبية واللغوية والقومية والمناطقية، وبروز سرديات تاريخية متمايزة لكل مكون من مكونات بعض هذه المجتمعات -مثال الأكراد في العراقوسوريا، والتركمان، والشيعة في العراق ولبنان والبحرين والكويت والسعودية- والأمازيغ في المغرب والجزائر، والقبائل الدارفورية الإفريقية... إلخ- وكل سردية حول تاريخ كل مكون لها استقلاليتها الذاتية المتمايزة والمتداخلة والمتناقضة أحيانًا مع السردية التاريخية العامة للتاريخ "الوطني" العام، ومع السرديات الفرعية الأخرى نمت وتطورت السرديات المتصارعة حول وداخل السردية التاريخية العامة في بعض هذه الدول والمجتمعات العربية، ومن ثم أثرت سلبًا على عمليات مراكمة الموحدات الوطنية وتطوراتها إلى أشكال أكثر تطورًا في إطار هياكل تمثيلية حقيقية وفعالة، في إنتاج الوحدة الوطنية ورمزياتها الكبرى، ودولة القانون والمواطنة وعدم التمييز بين كل المواطنين والمكونات المختلفة للمجتمع. 2- اعتمدت إيران في تمددها الإقليمي وسط بعض المكونات الاجتماعية الشيعية المذهب على جروح بعض من "المظلومية التاريخية" ذات الجذور في السردية المذهبية ورموزها التاريخية، وطقوسها في نمط التدين الشعبي للمؤمنين بالمذهب الشيعي، وإعادة إنتاجه في الوعي الاجتماعي لهذا المكون، في ظل بعض من التهميش والإقصاءات في وسط اجتماعي سني. أدى فائض التوظيفات السياسية للتأويلات المذهبية المتعارضة والمتصادمة لسرديات النزاع المذهبي التاريخي، إلى احتقانات مستمرة داخل المكونات الاجتماعية، على نحو سمح لتمدد الدور والنفوذ الإيراني، سواء على المستوى المرجعي والفقهي وتأويلاته، ومعه محمولاته من المناصرة المعنوية الرمزية لإيران ودورها الإقليمي كداعم لبعض العناصر والجماعات داخل بعض هذه المكونات الشيعية في بعض المجتمعات العربية. من ناحية أخرى لا يمكن نفي وصف العروبة عن غالبية المكون الشيعي وبعض مراجعه في المجتمعات العربية على الرغم من الغلو لدى بعض قياداتهم، والذي أسهم في إنمائه غلو بعض رجال الدين السنة، ومن السلفيين المتشددين. 3- في أعقاب انهيار الدولة والنظام العراقي مع الغزو الأمريكي والتحالف الدولي، والهندسة الجديدة لبريمر، والدور الإيراني ظهرت عديد المشكلات ذات البعد المذهبي في تركيبة عراق بريمر وما بعد، وأسهم "داعش" واحتلاله للموصل وأراضي عراقية في ازدياد أدوار النزاع المذهبي، خاصة في ظل الدور الذي لعبته قوات الحشد الشعبي، وبعض الممارسات التي قامت بها بعض عناصرها، هي تجاوزات تم الاعتراف بها، قيل إنه سيتم التحقيق فيها كما قال رئيس الحكومة العراقية. 4- أدى الدعم الإيراني المتعدد بعد الثورة وإلى الآن لبعض المنظمات السياسة والعسكرية - الشيعية كحزب الله اللبناني إلى تحولها إلى فاعل إقليمي ما دون الدولة، ناهيك بكونها فاعلا سياسيا مؤثرا داخل الدولة اللبنانية، ومن ثم إلى دخول الحزب ضمن الأطراف الإقليمية والدولية المشاركة في الحرب الأهلية في سوريا، إلى جانب إيران والدولة السورية، وروسيا. التغيرات الإقليمية الصراعية، انعكست سلبًا على البنيات الاجتماعية الانقسامية والطائفية وأسهمت في عمليات التآكل والتفكك في بعض أنماط التعايش المشترك في هذه المجتمعات -سورياوالعراق ولبنان واليمن والبحرين- بدرجات مختلفة من حالة لأخرى، لا سيما في ظل التوترات والاحتقانات الاجتماعية في بعض هذه البلدان، أو انهيار الدولة والنظام فيها من جراء الحرب الأهلية، وهو ما أسهم في تمدد التشظي والتفكك والتوتر الاجتماعي. من ثم هيمنت التوترات المذهبية واحتقاناتها الملتهبة في بعض العلاقات الاجتماعية، وأثرت سلبًا إلى حد ما على الجامع العروبي المشترك. 5- قامت بعض النخب السياسية الحاكمة في الإقليم العربي، بتوظيف الانتماء المذهبي في الصراع الإقليمي، وامتداد بعض من فوائضه داخليا، ومن ثم تحول الصراع حول المكانات والأدوار الإقليمية والمصالح الوطنية من الواقع إلى المجاز المذهبي/ السياسي، وانعكاسات ذلك على الفكرة العربية الجامعة - العروبة- كحقيقة من حقائق الجغرافيا السياسية والدينية والثقافية والواقع التاريخي المستمر. إن تفكك الروابط الجامعة وأفكارها الكبرى الملهمة وتراجع أولوياتها في الإدراك السياسي للنخبة السياسية الحاكمة، وفي الوعي الاجتماعي لعديد من الشرائح الاجتماعية داخل كل دولة ومجتمع عربي، أثرت سلبا على التضامن العربي بين الدول ووحدات الإقليم العربي، وبين مكوناته الاجتماعية الداخلية على تعددها وموحداتها النسبية/ الهشة. 6- صعود الصراع المذهبي المسيس، أدى إلى ميلاد نمط من المذهبية المسيسة في الإقليم العربي، وفي الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، ودخول تركيا إلى حومة الصراع المذهبي، ونزوعها الإمبراطوري في المنطقة في أعقاب يأسها من الانخراط في إطار الاتحاد الأوروبي، ومن ثم يخايل زعامتها السياسية -منذ تورجوت أوزال إلى أردوغان- أضغاث أحلام الإمبراطورية العثمانية، ونظام الملل في المشرق تحت عمامة سليم الأول بديلاً عن قبعة كمال أتاتورك العلمانية على النمط الأوروبي. من هنا تسعى سياسة "التسييس المذهبي" لدول الجوار الجغرافي العربي، وداخل بعض دول الإقليم العربي إلى إحداث تحولات وتفكيكات داخل البنى الاجتماعية العربية، والأخطر أن بعض دول الجوار، ومعها دول عربية سعت ولا تزال لتوظيف بعض الصراعات السياسية والدينية الداخلية، في إحداث تغيرات داخل هذه الدول وهو ما يسهم في مزيد من التوترات والانقسامات الاجتماعية، ناهيك بتحول بعضها إلى ملاذات آمنة لبعض هذه القيادات، ودعمها لبعض المنظمات والجماعات التي تمارس التطرف العنيف، والعمليات الإرهابية على نحو ما يتم في مصر، وليبيا، وتونس على سبيل المثال.