أحد أكبر أزمات الفكر العربى الحديث والمعاصر تتمثل فى خطابات الأزمات الكبرى ومقارباتها التى تدور فى مدارات تبدو سديمية حينًا، وغامضة، وسائلة، ومضطربة فى عموميتها حينًا آخر، ومن ثم تعيد إنتاج سيولتها وغموضها، وعلى رأسها التضامن العربى، وقبله الوحدة العربية وما شابهما من قضايا/ شعارات، وسمت عديد المراحل منذ منتصف عقد السبعينيات من القرن الماضى، حتى عقود التفكك والتشظى فى بنية العلاقات العربية – العربية، ومعها ما قيل عنه مجازًا بالنظام العربى، وتراجع الفكرة العربية الجامعة لصالح سياسات بناء الدولة الوطنية على هياكل وسياسات الحكم "الكولونيالى"- الإدارة المباشرة الفرنسية، والإدارة غير المباشرة البريطانية – ونزوعًا لتأسيس التكامل/ الاندماج الداخلى، وفق استراتيجيات بوتقة الصهر التى اعتمدت على العنف المادى والرمزى والأيديولوجى "المشروع" شكلانيًا لجهاز الدولة، ولكنه لم يحقق نتائجه فى بناء أنسجة اجتماعية وسياسية تتجاوز المكونات والولاءات والانتماءات الأولية للأبنية الدينية والمذهبية والعرقية والقومية والمناطقية وتجسيداتها فى الواقع الموضوعى، من تشظيات وتفكك، وعدم القدرة على بلورة موحدات جامعة فوق المكونات الأولية، حول هوية كلية تنتظم حولها وداخلها الهويات الأخرى فى تناغم وتجانس وتوتر خلاق فى إطار تكاملى. إن نظرة على التطور التاريخى والسياسى للعالم والإقليم العربى، تشير إلى حالة من الصراعات حول الأفكار السياسية والاجتماعية الكبرى التى ألهمت النخب السياسية الحاكمة ومعارضاتها، بين الصعود والأفول والتحلل، وفقدان الصدقية والحيوية التى ألهمت بعض الأجيال السياسية، والنخب المثقفة، وقطاعات اجتماعية واسعة منذ ما قبل الاستقلال، إلى ما بعده، ومن ثم أدت إلى إنتاج إحباطات وردة على هذه الأفكار إلى بعض من نقائضها جزئيًا، وفى بعض الحالات كليًا، على نحو أثر على جاذبية بعض هذه الأفكار وطابعها الرمزى الملهم ووظائفها الأيديولوجية فى التعبئة والحشد لفئات اجتماعية واسعة نسبيًا فى المجتمعات العربية على تعددها والتمايز الاجتماعى والسياسى والاقتصادى فيما بين بعضها بعضًا، واختلاف مستويات ونوعية التطور الاجتماعى بين وحدات الإقليم العربى السياسية. من ناحية أخرى بعض هذه الأفكار الكبرى -كالقومية العربية والوحدة العربية والاشتراكية والعدالة الاجتماعية والليبرالية، والفكرة الإسلامية الجامعة- خضعت لتأويلات أيديولوجية شتى، وصراعات عليها وبها فى الخطابات العربية المتنازعة، على نحو كرس انقسامات وإقصاءات وصراع على روح الفكرة العربية الجامعة ذاتها، وعلى روح الإنسان العربى أيًا كانت انتماءاته وولاءاته الأولية. إن الجذور التاريخية للأزمات الكبرى للعلاقات العربية - العربية، وتصدع عديد من المشروعات الوحدوية المتسرعة، أدت إلى فقدان الروح الملهمة للأفكار والسرديات الكبرى، وعدم التزام النخب السياسية الحاكمة -وبعض المعارضة إلى حد ما- بهذه الأفكار فى سياساتها الخارجية، وعلاقاتها مع الدول العربية الأخرى. من هنا يبدو مصطلح التضامن العربى، لدى بعضهم فى السياسات العملية محضُ مصطلح أقرب إلى اللغة الخشبية فى السوق الاصطلاحى العربى، وجزءًا من الموروث اللغوى لعقود السبعينيات والثمانينيات، وما بعد وإزاحته التناقضات فى الإدراكات والمفاهيم السياسية للنخب الحاكمة فى أعقاب ثورة عوائد النفط، والتباينات بين أنظمة ومجتمعات اليسر، والعسر العربية -إذا شئنا استعارة محمود عبد الفضيل- ومن ثم حلت محله لغة سياسية سائلة وغامضة، وبعضها لغة جارحة فى أوقات الأزمات المستمرة العربية - العربية، أثرت إدراكيًا بالسلب على إيمان الإنسان العربى بالجوامع المشتركة والموحدات الجامعة. من ثم لا يمكن الهروب من تاريخية الأزمات ومنابتها وتطوراتها والجرى وراء اللحظة التاريخية الآنية، لأنها لن تنتج سوى التعميمات الجامحة، واللغة المجنحة التى تفسر كل شىء، ولا تفسر شيئًا، وتقود إلى شعاراتية لا تؤدى إلى معالجات رصينة وجادة للصدوع فى العلاقات العربية - العربية الرسمية، وفى الأنسجة الاجتماعية العابرة للدولة والحدود الجيو-سياسية. من ثم سوف نحاول مقاربة الأبعاد السوسيو - ثقافية للأزمات التى تعصف بالحدود الدنيا للتوافق العربى، أو التضامن العربى، وذلك على النحو التالى: أولاً: الأسباب الاجتماعية لأزمات التضامن العربى. ثانيًا: هل هناك إمكانية للخروج من حد التفكك إلى حد التوافق: البحث عن مقاربات عملية فى الآجال الزمنية القصيرة والمتوسطة والبعيدة. أولاً: الأسباب الاجتماعية لأزمات التضامن العربى: الانعكاسات، والتشوهات، والتفكيكات 1- الصراع على الروح العربية الجامعة: الإسلام فى مواجهة العروبة 1- الفكرة العربية الجامعة، ساهمت تاريخيًا مع صعود التجار والفئات شبه الرأسمالية، ودورها الاجتماعى والسياسى فى الحركات الوطنية، فى تبنى الفكرة العربية الجامعة، ومع نمو واتساع الفئات الوسطى - الوسطى وقاعدة التعليم فى أعقاب الاستقلال، أدت إلى تبلور الفكرة العربية وتحولها إلى رمزية - أيديولوجية، ومجاز تاريخى إلى القومية العربية كمظلة أيقونية لبعض نخب ما بعد الاستقلال، فى بناء هوياتها السياسية، وفى الهيمنة الرمزية على المكونات الأولية لمجتمعاتها، وتأسيس التكامل والاندماج الوطنى، من خلال استراتيجيات التكامل القسرى بقوة جهاز الدولة المادى/ القمعى، والرمزى الأيديولوجى، وهو ما لم يحقق النتائج المرجوة منه، بسبب تدهور مشروعات التنمية وعدم استدامتها، والتمايز المناطقى والجهوي، والتحيزات النخبوية لجذورها فى توزيع العمليات التنموية على جغرافيا الإنماء الوطنية، مما أدى إلى تهميشات وإقصاءات لفئات ومكونات اجتماعية ومناطقية ودينية ومذهبية ولغوية وعرقية وقومية وطائفية. 2- أدى التوظيف السياسى للإسلام فى العمليات السياسية فى غالب النظم السياسية العربية -كأحد أبرز مصادر الشرعية السياسية، وأحد أدوات التعبئة الاجتماعية والسياسية، وفى تبرير وتسويغ السياسات الاجتماعية والتوزيعية، وفى نظام السياسة الخارجية - إلى تحول الدين الحنيف إلى أداة صراعية فى الخلافات السياسية، والمذهبية الداخلية، وفى العلاقات العربية - العربية ومحاورها منذ عقد الستينيات إلى هيمنة الإسلام السياسى عربيًا، لا سيما فى طابعه الراديكالى، وتطرفاته العنيفة، والمفرطة داخليًا، وتحول بعض منظماته إلى إرهابية تنشر الفوضى والعنف والدماء وتحول مجتمعات بعض الدول العربية إلى أرض يباب إذا شئنا استعارة ت. أس. إليوت. لا شك أن نمو وصعود الفكرة الإسلامية الجامعة -"التضامن الإسلامى، و"الخلافة الإسلامية" – فى ظل الصراعات البينية الداخلية، والإقليمية، وتراجع الأفكار العروبية، والفكرة العربية الجامعة – "القومية العربية" و"الوحدة العربية"- على نحو تدريجى، والأزمات التى ألمت بالتضامن العربى كبديل "براجماتى" وشعاراتى، على نحو أدى إلى سيادة سياسات بناء "الهويات الوطنية"، وتحديدها وبلورتها عبر الصراعات والنزاعات الثنائية فى دوائر الجغرافيا السياسية للإقليم العربى، سواء على مستوى ضبط وترسيم الحدود، أو الخلافات السياسية.. إلخ، ومن ثم محاولة استكمال هوية وطنية جامعة، وهو ما لم تؤد السياسات الحكومية إلى بنائها فى الواقع الاجتماعى والسياسى داخل كل دولة ومجتمع عربى، باستثناء المثال المصرى التاريخى والمغربى إلى حد ما. 3- من هنا نستطيع القول إن تراجع الفكرة العربية الجامعة لصالح الهويات الوطنية ونمو التمايزات بين الثقافات العربية -رغم موحداتها الأساسية- إلى بروز تباينات وخصوصيات وهويات وثقافات متعددة داخل الدولة والمجتمع الواحد، وهو ما تجلى فى الإقصاءات والانقسامات والتشرذمات الداخلية، وفى الموحدات الأساسية العربية الجامعة. 4- أدى سقوط السرديات الكبرى كونيًا، إلى بروز إشكاليات المعنى والهوية، فى أعقاب تراجع الإمبراطورية الفلسفية الماركسية وأقانيمها الملهمة، ومعها سقوط وتفكك الكتلة السوفيتية، وتحولها إلى الرأسمالية ونظام السوق والليبرالية السياسية، ومن ثم تداخل هذا التحول التاريخى إلى صحوة الهويات الأولية الوطنية والثقافية، ومعها تمددت تحولات الشرط ما بعد الحداثى، وتشظياته، ثم إلى عالم سائل ومضطرب وينطوى على عدم اليقين وإلى انعكاسات هذه التحولات المابعدية على البنى الاجتماعية والمؤسسية والفكرية والتكوينات الداخلية العربية، على نحو أدى إلى المزيد من التشوهات، والاختلاطات فى الرؤى والسياسات، فى ظل ضعف قدرة الدول والنظم والنخب السياسية والثقافية على التكيف السريع، وإعادة التكيف مما أدى إلى عدم الاستقرار الداخلى، وفى الإقليم العربى المضطرب. «للحديث بقية»..