لن أنسى ما حييت ذلك المواطن السودانى الجنوبى الذى سألته مذيعة مصرية خلال تغطيتها لوقائع التصويت على انفصال الجنوب عن الشمال: لماذا تؤيد الانفصال؟ ليقول لها وهو يقف فى طابور طويل يؤكد رغبة مواطنيه فى استخدام حقهم الديمقراطى الذى انتزعوه بعد عقود من قهر جمهورية السودان الإسلامية لهم، واتهامها لقادتهم بالخيانة العظمى: يا أختى، أنا مسيحى، ليه أخويا الشمالى عايز (يطربق) الشريعة علىّ؟ كدت أرتمى على الأرض من الضحك. كان واضحا أن عدم إتقانه للعربية جعله يحرف فعل (يطبق) بحسن نية إلى (يطربق)، فتحولت الشريعة بذلك الخطأ اللغوى، غير المقصود، إلى بناء سيهدمه الشماليون على رأسه. كنت حزينا لذلك الانفصال الذى قد يكون بداية لتداعيات خطيرة فى دول عربية أخرى، لكن شر البلية ما يضحك. نحن نرفض العنصرية ضدنا، ولكننا نمارسها ضد غيرنا. غالبية المثقفين العرب دار فى عقولهم طوال سنوات الصراع العربى-الإسرائيلى أنه سيحسم حتما لصالحنا إن تخلت إسرائيل عن يهودية الدولة، ومنحت أقلياتها حق المواطنة الكاملة كتكرار لتجربة جنوب إفريقيا عندما تخلت عن عنصريتها. قمة التناقض أن تدور تلك الفكرة التقدمية الراقية فى أذهاننا، وأن ندين عدونا لممارسته خطيئة القهر السياسى والاجتماعى على أقلياته الدينية والعرقية، بينما جمهورياتنا التى جاهدت وانتزعت حريتها من أنياب الديكتاتوريات التى كانت تحكمها تسعى بعض تياراتها السياسية إلى إقامة كيانات دينية على أنقاض تلك الديكتاتوريات القديمة! ترى ماذا يمكن أن يُسمى هذا التناقض فى علم النفس الاجتماعى؟ أهو نوع من الاقتداء بالظالم يمارسه المظلوم الذى يحمل فى أعماقه عقدة نقص تجاه من يقهره؟ أم هو اقتناع يرقى إلى مرتبة الوسواس القهرى بأنك لن تنتصر إلا باستخدامك للسلاح الذى هزمت به؟ يتضح الأمر جليا فى نموذج حركة حماس التى أنشأت إمارة إسلامية لتقاوم دولة إسرائيل اليهودية بعد عقود من فشل السلطة الوطنية (منظمة التحرير) فى استرداد الحقوق الفلسطينية، لتقوم تلك الإمارة بتهميش دور الأقليات وممارسة نفس الخطيئة التى ترتكبها إسرائيل. هل سمع أحدكم عن مسؤول فلسطينى مسيحى يتولى منصبا سياسيا أو عسكريا رفيعا فى غزة؟ بالطبع لا، فالدول الدينية لا تثق فى أقلياتها ولا تمنحهم شرف الخدمة العسكرية، لأن فى تصورها أن احتمال خيانتهم للوطن، الذى ترفرف فوقه راية الدين، أكبر من ولائهم له! الدولة التى ترفع راية تجسد عقيدة الأغلبية تحرم أقلياتها، بلا حق مشروع من انتمائهم للوطن. جرب أن تضع نفسك مكان شخص من أولئك الأقليات، لماذا لا يفكر بل ويحلم بالانفصال عمن يجردونه من حقوق المواطنة فى بلاده التى ولد أجداده على أرضها؟ كيف تتهمه بالخيانة إن فكر فى الانفصال، بينما تنخسه بعصاك الظالمة وتدفعه قسرا فى ذلك الاتجاه؟ عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- أسقط حد السرقة فى عام الرمادة، لأن الدولة عندما تعجز عن توفير الخبز لمواطنيها لا يحق لها معاقبتهم إن سرقوا. بنفس القياس، الدولة التى تحرم أقلياتها من المواطنة الكاملة بممارستها لديكتاتورية الأغلبية، لا يحق لها أن تتهمهم بالخيانة إن حلموا بالانفصال عنها. القانون الدولى لا يبرر إجماع الأغلبية على ارتكاب جريمة إقصاء عنصرية. هذه أبسط قواعد الديمقراطية التى لا يفهمها المتعصبون ضيقو الأفق. بعض المحاكم الإسرائيلية ترفض دعاوى إسقاط الجنسية عن عرب 48 الذين يعلنون تعاطفهم مع المقاومة الفلسطينية، بينما البعض منا يريد حرمان أقلياتنا من حقوق المواطنة بلا سند قانونى! هذه ليست دعوة للانفصال، لكنها دعوة للمساواة التى تمنع المناداة بالانفصال. الدول يجب أن تتسع للجميع لأن القيادة ينبغى أن تكون لمن يصلح لها. تصور جماعة غالبيتهم من المسلمين تاهوا فى صحراء يعرف مسالكها نصرانى بينهم. أليس من الأجدى أن يتركوا له قيادتهم باعتباره الوحيد القادر على إخراجهم بسلام من ذلك التيه؟ هل يفضلون الموت لكيلا تكون الولاية عليهم لغير المسلم؟ أم يمنحونه القيادة وقت الأزمة فقط، ويحرمونه منها بعد انفراجها؟ لهواة المجادلات الخزعبلية أقول إن وزراء الدولة الأندلسية وقضاتها، كان بعضهم من اليهود والنصارى، وتوليتهم أمور المسلمين يؤكد أن مفهوم الصلاحية أقوى من المفاهيم الإقصائية التى تبنى على الدين والعرق، أبناء الحضارات المتفوقة يثقون فى غيرهم، كانعكاس لثقتهم فى أنفسهم. أرنى دولة دينية معاصرة ارتفعت بمستوى مواطنيها ثقافيا، ولم تكبل عقولهم وتلهيهم بتفاهات كتحريم قيادة المرأة للسيارة، وارتدائها للبنطلون، أو بأنهم شعب الله المختار؟! على الجانب الآخر تنتقل السلطة فى دولة علمانية كتركيا بسلاسة إلى حزب إسلامى عندما تختاره الأغلبية، بينما من رابع المستحيلات حدوث انتقال سلمى للسلطة لحزب مدنى فى دولة دينية كإيران. لا ضرر فى أن يؤمن أصحاب أى نظرية بأن حل مشكلات الإنسانية يكمن فى تطبيقها. من حقهم أن يجربوا، شريطة الالتزام بقواعد الديمقراطية وحقوق الإنسان، لأن منطق التاريخ يؤكد أن تداول السلطة هو الوسيلة الوحيدة التى تتيح فرصة الاستفادة من الجدل التفاعلى بين أفضل ما تتميز به مختلف النظريات. مشكلة التلويح بتطبيق الحدود الإسلامية فى السودان على أهل الجنوب المسيحى كانت هى المدخل لانفضاله عن الشمال. يومها دقت الدولة الدينية بديكتاتوريتها الحمقاء آخر مسمار فى نعش وحدة شطريها. تفشل الدول الدينية على اختلافها دائما فى الحفاظ على وحدتها، لأن من يحكمونها باسم الدين يقدمون لأقلياتهم شرعية طلب الانفصال على طبق من ذهب.