السخرية كالكاريكاتير، تضخم الملامح، لكى يراها من لم يرها، فلا يغفل عنها بعدها. أعظم كتاب العالم أشهرهم بالسخرية. أوسكار وايلد وجورج برناردشو يعتمدان السخرية المباشرة. تولستوى وتشيكوف وشكسبير يعتمدان سخرية مبطنة من القيم المتعارف عليها. النبى إبراهيم حاجج قومه بالسخرية «إنما فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون». والرجل المصرى هزم دعاوى حاكم فاطمى نشر بين الناس أنه يعلم الغيب بالسخرية: بالظلم والجور قد رضينا/ وليس بالكفر والحماقة/ إن كنت تعلم الغيب ف/ أنبئنا بمن كتب البطاقة. والسخرية هى سلاح نبيل للضعيف ضد القوى، لأنها تسحب القوى إلى خارج حيز سطوته. هذا أحلى ما فى السخرية من الأقوياء، قدرتها على المساواة بين البشر، وعلى إزالة القشور. لذلك يزدهر فن السخرية السياسية فى المجتمعات الديمقراطية، بينما تتوغل السخرية المبطنة فى المجتمعات القمعية. وليس معنى السخرية من الكبار احتقارهم، لا، كثير من السخرية مبعثه الود دون تقديس، والاحترام دون تسليم، باختصار، الرغبة فى سحب شخص إلى جوارنا لكى نحبه كبشر. وبعض الكبار لا تزيدهم السخرية إلا استحقاقا للإكبار، وبعضهم لا تُنقِصهم إلا لقب «كبير»، لأنهم لا يملكون من مسوغات الإكبار غيره، ولو وجدت لديهم شيئا يستحق الاقتناص لجردتهم منه. أما أجمل ما فى السخرية فهى قدرتها على توسيع الآفاق وتدريب المخ على تركيب أشياء تبدو متناقضة. خذ عندك وصف أوسكار وايلد لأحدهم: «ليس لديه أعداء، لكن أصدقاءه يبغضونه بشدة». والسخرية تعين المخ على اختزال الحكمة، يقول إبراهام لنكولن واصفا أحدهم: «لديه قدرة غريبة على حشو أكبر عدد من الكلمات للتعبير عن أتفه فكرة ممكنة». لكن السخرية، على الجانب الآخر، سلاح خسيس للقوى ضد الضعيف، إذ تصير ممارسة للنفوذ واستغلالا له، وتنطوى ساعتها على عدم تكافؤ فى الفرص. وهى أيضا مذمومة إن اكتفت دائما بإبراز العيوب وتجاهلت تقديم الرؤى، إذ يصير لدى الساخر خوف مرضى من أن يصير مادة للسخرية التى تستطيع أن تطال حتى الورد، فهو أحمر الخدين دائما بشكل «يميّع» النفس. وقد قال الخليفة عبد الملك بن مروان إذ اشتعل شيبا وهو صغير السن: «شيبنى عرض عقلى على الناس». يقصد بذلك تصدره لخطبة الجمعة كل أسبوع، مع علمه بأنه لا محالة سيخطئ. فالعدل أن الإنسان يسخر من الناس ويتقبل منهم أن يسخروا منه، لأنه يعرف أنه ليس أفضل منهم على أى حال، وأن لا فضل لساخر على مسخور (بخلاف الحال بين الساخط والمسخوط)، بل ربما يسخر المرء من شخص يعرف أنه أفضل منه ألف مرة، يسخر لوجود داع -ولو واحدًا فى المئة- للسخرية. أما من سخر من الآخرين ثم حصن نفسه من سخريتهم بتجنب طرح أفكار فقد سجن نفسه فى قضبان من صنعه وأدمن لحس الحديد، وشل ملكة التفكير البناء فى عقله، ووطّن قلبه على إيثار السلامة، وضخم «الأنا» إلى «الإلا أنا». انظر حولك، ستجد أن كثيرا من أصدقائك الساخرين وقعوا فى هذا الفخ. أسخر فى مقالاتى من شخصيات عامة بتهكم لا «خفة دم» فيه، وأسخر من قيم. لا أستحيى من هذا. وأتوقع أن زملاء وقراء يسخرون مما أكتب، على الأقل 80٪ من سكان الأرض يسخرون مما قاله أىٌ من الأنبياء الذين تقدسينهم. بل ويسخرون من الله الذى تعبدينه. وفى الكتب المقدسة آيات تذكر هذه السخرية وترد عليها. فهل تتوقعين أن بشرا -مهما كان- بمنأى عن السخرية؟ مهنتى أن أمتحن ما شاع بين الناس من أخبار وأفكار، والتهكم أحد أسلحتى. لكننى أيضا أعرض عقلى عليكِ، ولن أغضب إن استخدمتِ نفس السلاح ضدى. هذا جزء من عملى، وجزء من آلية تحسين عملى. وأخيرا فى هذا المقام (ل) ثمة فارق طبعا بين السخرية والتهكم على الأفكار من ناحية، وبين السب والقذف من ناحية، تدركين ذلك. الأولى جزء لا بد منه لكى نعصر الأفكار عصرا، ونمتحنها امتحانا، ونصل إلى أنقى صورة إنسانية ممكنة. أما الثانية فجريمة يعاقب عليها القانون، وكذب، وتعد على حقوق الآخرين.