وقف الأستاذ أحمد مسندًا ظهره إلى أحد جدران المعسكر، وأخفى خلف ملامحه الهادئة، مئات الأسئلة التي غمرت ذهنه. "كيف حال أسرتي الآن؟، هم في السويس، والحرب تطاردهم هناك، متى سأراهم مجددًا؟، ماذا يخطط لنا هؤلاء الإسرائيليون؟، وهل سنعود إلى أرض الوطن قريبًا أم..". ( اقرأ الجزء الأو ل ). مر شهر على مساء 5 يونيو 1967، منذ أسر "أحمد" والمصريين معه في قطاع غزة، والأيام في المعسكر متشابهة، ساعات طويلة تنقضي بلا فعل شيء، مع ظروف حياة هي الأسوأ، في ظل ندرة الغذاء، ناهيك عن الاستجواب والتعذيب والإساءات من الإسرائيليين. وفي أحد الأيام، أثناء اصطفاف الأسرى في المعسكر، فوجئوا بأحد المصريين، وهو معلم لغة إنجليزية، يصرخ مناديًا على ضابط إسرائيلي، الذي توجه إليه، ونظر له بتمعن، ثم تصافحا ودار بينهما "حديث ودي" استهجنوه. وحينما حدثوا زميلهم، مبدين غضبهم من حديثه للإسرائيلي، أخبرهم أن هذا الضابط كان في دفعته نفسها أيام الدراسة، وهو خريج كلية الآداب جامعة القاهرة، واسمه "إيزاك". اليهود الذين كانوا يعيشون في مصر خلال العهود الماضية، بدأوا في الهجرة منذ إعلان تأسيس الكيان الصهيوني عام 1948، ووصلت موجات الهجرة إلى ذروتها عقب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. ويحكي "أحمد": "للغرابة فإن إيزاك هذا كان يتعامل معنا بأقصى درجات العنف"، ذاكرًا أنه كان يردد مقولة: "إحنا عارفين إن آخرتنا هتكون على إيديكم، ديه نبوءة موجودة في التوراة والتلمود.. نهاية بني إسرائيل ستكون على يد المصريين". ابتعد "أحمد" والأسرى الآخرين عن "المصري" الذي جمعته صداقة مع الضابط الإسرائيلي، والتي كلفته كثيرًا، بعد اختفاء ضابط الاستخبارات الإسرائيلي المسئول عن المعسكر ( اقرأ الجزء الثاني )، حيث ظل "إيزاك" يمارس ضغوطًا شديدة عليه؛ ظنًا منه أنه يمكن أن يكون مصدر معلومات له. يعقب "أحمد": "لكن الله سلم، فهذا الزميل المصري لا يعلم ما حدث للضابط الإسرائيلي". المعاملة السيئة اشتدت على الأسرى يومًا بعد آخر، فلم تلتزم إسرائيل بأي من القوانين الدولية المنظمة لمعاملة المدنيين أثناء الحرب، وكانت طبيعة الحياة بالمعسكر في غاية السوء. وعن الغذاء، يقول "أحمد": "تعيينات الفرد في اليوم رغيف خبز صغير وبصلة، كما لا توجد رعاية صحية، فبدأ الهزال وأعراض سوء التغذية تظهر علينا"، فيما حاولت مصر إرسال وجبات إليهم عبر الهلال الأحمر المصري؛ إلا أن الإسرائيليين كانوا يصادرونها، واكتفوا بما يصرفوه لهم. بعد شهرين، أطلعهم الإسرائيليون على خبر مفرح، أنه يتم تجهيز أتوبيسات لنقلهم إلى مصر، وبالفعل في باكر اليوم التالي، استقلوا تلك الأتوبيسات، وهم في سعادة غامرة، التي سرعان ما تبددت، حيث اكتشفوا أنه تم نقلهم إلى معسكر "عتليت" داخل العمق الإسرائيلي، وهو شديد الحراسة. ازدادت قسوة الإسرائيليين، وكاد أمل العودة يتبخر، فكل يوم يخبرونهم أنهم سيغادرون إلى مصر، ولكنها وعود كاذبة، حتى إنهم تلقوا تعهدًا من موشيه ديان، وزير الدفاع الإسرائيلي وقتها، بأنهم سيرحلون قريبًا، وذلك خلال إحدى المرات التي تفقد فيها المعسكر، وعندما عاد في جولة جديدة سألوه على تعهده فأجاب: "هل أعطيتكم ورقة بهذا الكلام؟"، وتنصل من وعده. لم يعد "أحمد" يهتم بتسجيل الأيام، ولكن ما يذكره أنه وبعد 3 أشهر في الأسر، أخبرهم الإسرائيليون بأنهم سيغادرون غدًا، لم يأخذوا كلامهم على محمل الجد، لأنهم اعتادوا كذب وعودهم، لكن في مساء هذا اليوم، أخبرهم "باسل" أنهم سيسافرون بالفعل هذه المرة، وفسر لهم قصة الضابط الإسرائيلي المختفي. "باسل" حملهم أمانة، عبارة عن أوراق مدون فيها ملحوظات سجلها خلال عملياته داخل إسرائيل، وطلب منهم إيصالها لمندوب سيكون في استقبالهم لدى عبورهم إلى غرب قناة السويس، فسألوه: "مش هترجع معانا مصر؟".. وأجاب: "لأ.. لسه شغلي ماخلص". في هذا اليوم الموعود، ركب الجميع أتوبيسات منظمة الصليب الأحمر الدولي، التي أخذتهم إلى الضفة الشرقية لقناة السويس، وهناك ركبوا زوارق للضفة الغربية، حيث كان في انتظارهم أحد رجال الجيش، وأعطوه "الأوراق" الخاصة ب"باسل"، وحينها علموا أنه أحد مؤسسي منظمة تحرير سيناء، التي تنفذ عمليات مقاومة ضد الجيش الإسرائيلي.