امتثل "الأستاذ أحمد" ومن معه من المصريين للتعليمات الصادرة من القوات الإسرائيلية، حيث وقعوا في الأسر مساء يوم 5 يونيو 1967، وذهبوا إلى المدرسة التي حددت كنقطة تجمع لهم، وهناك عاملوهم كأسرى حرب، رغم أنهم مدنيون. ( لقراءة الجزء الأول اضغط هنا ) في أول يوم لهم في معسكر "الأسر"، أجبرهم الإسرائيليون على التوجه إلى مناطق تمركز الكتيبة المصرية، التي كانت تدافع عن "غزة"، وأصابتهم الصدمة من حجم الدمار والأشلاء المتناثرة لجثث الشهداء، وحينما تعالت نبرة الغضب بينهم، علق أحد الضباط الإسرائيليين قائلًا: "هؤلاء الجنود قتلوا من الكثير، ولولا استخدامنا أقصى درجات العنف معهم، ونفاد ذخائرهم، ما استطعنا أن نمر من مواقعهم". أخذ "أحمد" ورفاقه يجمعون تلك الرفات، البعض لم يتمالك دموعه، وآخرون انهالوا بالدعاء على "القتلة"، قبل أن ينهرهم الضباط الإسرائيليون، ويأمروهم بأن يسرعوا في الانتهاء من عملهم. انتهت أعمال الدفن، ووقف الجميع يتلون ما تيسر من آيات القرآن، ولم يستطيعوا أن يؤدوا صلاة الجنازة عليهم، فقد تعجل "الإسرائيليون" إعادتهم إلى المعسكر. "الأيام تمر ثقيلة تحت الأسر".. يروي "أحمد"، الذي تعرض ومن معه إلى الاستجواب يوميًا، وهي مناسبات تشهد الكثير من الإهانة والإيذاء النفسي والجسدي، وكان هدف الإسرائيليين فضح أمر العسكريين الذين اندسوا بينهم، ومنهم ضابط كان يحمل هوية مدنية، لم يعرفوا اسمه الحقيقي، لكنهم اعتادوا أن ينادوه "باسل". "باسل" كان مكلفًا بمهمات "سرية"، كما حكى في اقتضاب لثلاثة من أفراد المعسكر، ائتمنهم على هويته، ومن بينهم "أحمد"، إلا أنه لم يتحدث بالتفصيل عن تلك المهمات، ولكنها وبكل تأكيد، كانت تتطلب رجلًا بمواصفات خاصة. "حينما كانت تنطفئ أنوار المعسكر، ويخلد الجميع إلى النوم، يبدأ عمله"، يتابع "أحمد"، الذي ذكر كيف كان يتسلل "باسل" خارج المعسكر، ويذهب إلى الأماكن التي كانت تتجمع فيها قوات الجيش المصري في غزة، وكانت تحتوي على "أسلحة وذخائر"، وقد كلف بتدميرها حتى لا يستفد العدو منها. وقبل دقائق من حلول الفجر، تدوي انفجارات ضخمة، يستيقظ على أسرها كل من في المعسكر، وحينها يعلم "أحمد" أن "باسل" وفق في مهمته، ويعلم أيضًا أن فصلًا جديدًا من "التعذيب" و"الاستجواب" سينطلق. مع توالي العمليات التي ينفذها "باسل"، أصبح الأسرى يعرضون يوميًا على ضابط استخبارات إسرائيلي، الذي كان مكلفًا بأن يكشف هويات العسكريين في المعسكر، وبطبيعة الحال، كان أغلب الأسرى لا يعرفون بالفعل من هم، ولذلك لم يحقق نجاحًا في مسعاه. ويومًا بعد آخر، يزداد عنف الضابط الإسرائيلي، إلى الدرجة التي دفعت بالأسرى إلى تقديم شكوى إلى "موشيه ديان" (وزير دفاع إسرائيل في تلك الفترة)، الذي زار المعسكر لتفقد أحواله، وقال لهم نصًا: "لا بأس، احتملوا ما يصدر منه، فهو يعاني من آلام نفسية بسبب إبادة أفراد مجموعته بمعرفة الجيش المصري أثناء الحرب". "هكذا أدركنا الأمر".. يكمل "أحمد": "لقد وضعوا لنا في المعسكر من لهم ثأر، ويحملون أكثر درجات الكراهية اتجاهنا، وعلى رأسهم هذا الضابط الإسرائيلي، ولم يعد هناك أمل في معاملة طيبة، طالما هو باق في المعسكر". بين الاستجواب، ونقص إمدادات الغذاء، وصلت الحالة النفسية للأسرى المصريين إلى أسوأ درجاتها، فكانوا يلجأون إلى "باسل"، الذي قص عليهم الكثير من بطولات الجيش المصري؛ لرفع روحهم المعنوية، حتى أنه أخبرهم في يوم أنهم سيستمعون إلى أصوات انفجارات شديدة، لا يجب أن يخافوا منها، لأن القوات البحرية ستوجه قصفًا مركزًا على مخازن الذخيرة في القطاع وبالمناطق المتاخمة في سيناء، لتدميرها، وهذا ما حدث بالفعل. استمر إيذاء الضابط الإسرائيلي، وقابله "صمت" المصريين، وقد جن جنونه تمامًا، حيث أخذ ينكل بهم، حتى جاءت البشارة من "باسل"، الذي أخبرهم أنه "هيريحهم منه". مر يومان ولم يعد المصريون يستقيظون على صراخ ووعيد هذا الضابط، فقد اختفى تمامًا، ودبت حالة من الذعر والغضب العارمين بين الجنود الإسرائيليين، الذين أخذوا في البحث عنه بكل شبر دون جدوى، وحقيقة لم يعلم أحد ما حدث له، وأين اختفى. لم ينكشف سر اختفاء الضابط الإسرائيلي إلا بعد مرور نحو 3 أشهر من الأسر، وحينها جاءت اللحظة الموعودة بالرحيل عن المعسكر، وتسليمهم إلى مصر، حيث استقللوا أتوبيسات إلى شرق قناة السويس، وكانت تلك آخر مرة يرون فيها "باسل"، الذي كشف لهم أنه قتل هذا الضابط، ودفنه أسفل سريره. ( نهاية الجزء الثاني ) تنويه : تلك الشهادة منقولة من أسرة صاحب القصة، وبعض الأسماء المستخدمة مستعارة.