على الرغم من محاولات روسيا تأجيل حسم مصير بشار الأسد لأطول فترة ممكنة، إلا أن مجمل العمليات السياسية التي تقودها موسكو، سواء في صيغة "أستانا" أو خارجها، تؤدي في نهاية المطاف إلى الكشف عن هذه الورقة المؤجلة. وزارة الخارجية الروسية أعلنت أخيرا أن وزير الخارجية سيرجي لافروف سيلتقي نظيره الأمريكي ريكس تيلرسون في واشنطن الأربعاء 10 مايو الحالي. وعلى الرغم من أن ذلك يبدو مفاجأة، إلا أن لقاءات بعينها، وتصريحات معينة كان من الممكن أن يفهم منها ذلك. هذا إضافة إلى أن هذا اللقاء كان ضروريا من أجل التحضير لعدة فعاليات دولية أخرى في شهري يونيو ويوليو المقبلين قد يلتقي خلالها الرئيسين الروسي بوتين والأمريكي ترامب، ولو حتى على هامش هذه الفعاليات. المفاجأة ليست في توجه لافروف إلى واشنطن، ولكن في بنود أجندة اللقاء مع نظيره تيلرسون، خاصة وأن ذلك يأتي بعد ٤ أيام من تطبيق ما يسمى ب "مذكرة مناطق خفض التصعيد" في سوريا، والاتصال الهاتفي بين رئيسي أركان البلدين بشأن استعدادهما لاستئناف العمل بمذكرة تفادي وقوع حوادث بين طائرات الدولتين في سوريا. وعلى الرغم من أن واشنطن تعاملت، ولا تزال تتعامل، بحذر مع المذكرة الروسية التي وقعتها كل من روسيا وإيران وتركيا في أستانا في 4 مايو الحالي، ورفضتها المعارضة السياسية والمسلحة السورية، إلا أن تصريحات وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس في كوبنهاجن (خلال مؤتمر دولي لمكافحة داعش) كانت ملفتة للغاية. إذ أعلن أن الولاياتالمتحدة تنوي أن تدرس بتعمق المقترحات بشأن إنشاء مناطق لخفض التصعيد في سوريا. وقال "سندرس المقترحات وسنرى هل يمكن أن يكون لها تأثير ما.. المثل يقول إن الشيطان يكمن في التفاصيل، أليس كذلك؟ لذا فيجب علينا أن ننظر في التفاصيل ونرى هل بإمكاننا تطبيقها، وهل سنستطيع القول إنها قد تكون فعالة". ماتيس أعرب عن مخاوف بلاده بشأن حدود المناطق المزمع إنشاؤها، مشيرا إلى أنها "واضحة بشكل عام، لكن هناك مسائل لا تزال الولاياتالمتحدة بحاجة إلى تسليط مزيد من الضوء عليها، وهي من الذي سيضمن الأمن في المناطق؟ من يأخذ على عاتقه مسؤولية ذلك؟ ومن سيبقى خارج نطاقها؟". من الواضح أن لقاء بوتين وأردوغان يوم 3 مايو الحالي في منتجع سوتشي الروسي على البحر الأسود، لم يكن مشجعا على أي شئ. وبالرغم من التصريحات الدبلوماسية، والأخرى الفضفاضة التي حوَّلت كل شئ إلى علاقات استراتيجية واعدة، وتطبيع كامل، وإعادة إطلاق جبارة للعلاقات، إلا أن الخلافات كانت واضحة للغاية. ولم يكن بوسع أي من الرئيسين الروسي أو التركي تقديم تنازلات لبعضهما البعض أكثر من ما تم تقديمه في إطار سياسات "عض الأصابع" بين موسكووأنقرة. لقد نجحت الولاياتالمتحدة في تحويل روسياوتركيا إلى خصمين إقليميين يتصارعان في منطقة الشرق الأوسط عموما، وفي سوريا على وجه الخصوص، ولكن ذلك كله تحت مظلتها هي الدولة الكبرى التي تتدخل في الوقت المناسب الذي يخدم مصالحها. ومن جهة أخرى، لا أحد أكثر من روسياوتركيا يتفهم مصالح الآخر وطموحاته وبعض جوانب خططه وسيناريوهاته المستقبلية في سوريا والمنطقة، وفي البحرين المتوسط والأسود. أي أن روسياوتركيا ببساطة، وكما تدرك الولاياتالمتحدة جيدا، خصمان جديران ببعضهما البعض. ومن ثم نجحت في تحويلهما إلى لاعبين من الدرجة الثانية. ولكن الطرف الروسي، بما يملك من خصوصية وبعض التمايز عن الطرف التركي، لديه طموحاته الأكبر، وملفاته الخلافية العالقة الأكثر، سواء مع الولاياتالمتحدة أو الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، أو مع تركيا نفسها. ولذلك ظلت موسكو متمسكة بورقة الأسد كآخر ورقة سياسية يمكن اللعب بها. أو بتعبير أكثر شعبية "ورقة التوت الأخيرة في سوريا". في تحليل لافت، عقب قمة بوتين – أردوغان في سوتشي، قلل المحلل الروسي (الأستاذ في قسم علم السياسة بالجامعة المالية التابعة للحكومة الروسية) جيفورج ميرزايان من أهمية نتائج هذه القمة، معتبرا أنه لا يمكن الاعتماد على أنقرة كشريك استراتيجي حاليا. ورأي أن أردوغان جاء إلى سوتشي ليطلب من بوتين عددا من التنازلات مقابل "الولاء"، لكن الجانب الروسي أبلغه بعدم استعداده لحل المشاكل التركية على حساب مصالح موسكو، ولاسيما مقابل "الولاء" الخيالي الذي لا وجود له في حقيقة الأمر. المحلل السياسي الروسي لفت إلى أن المحادثات بين أردوغان وبوتين جاءت بعد يوم من اجتماع الأخير مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في سوتشي، وإجرائه مكالمة هاتفية مع نظيره الأمريكي دونالد ترامب. وكان ذلك في نفس الوقت الذي رحَّبت فيه تركيا بالضربة الأمريكية على قاعدة الشعيرات الجوية السورية والحظر التركي على توريدات القمح الروسي. غير أن المهم هنا هو أن أردوغان، الذي سيقوم بزيارة إلى الولاياتالمتحدة بعد أسبوعين، يريد طرح تركيا على مزاد بين بوتين وترامب، ليحصل من يقدم العرض الأفضل على الولاء والدعم التركيين. لقد جاء أردوغان إلى روسيا مؤخرا ليحصل على 3 تنازلات في ما يخص الأزمة السورية، وهي تتعلق بالعملية السياسية، ومصير الأسد، والمسألة الكردية. لكن موسكو تؤكد دائما أن موقفها من الأسد غير قابل للتغيير، وتعتبره رئيسا شرعيا لا يمكن إزاحته إلا عن طريق الانتخابات التي لا يمكن أن تجري إلا بعد انتهاء الحرب الأهلية. وفي ما يخص الحل السياسي، بما في ذلك المقترح التركي حول إنشاء مناطق وقف التصعيد (أي مناطق التهدئة)، فلم تكن موسكو تعارضها، ل تدعو إليها مع بعض الشروط التي تفرغها من مضمونها، وتحافظ على مساحة نفوذ روسيا في سوريا. وفي الحقيقة، فقد جدد بوتين هذا الموقف قائلا: "إننا مع الرئيس التركي متمسكون بموقف يؤكد استحالة حل النزاع السوري إلا بالوسائل السياسية الدبلوماسية. وفي نهاية المطاف، يجب أن تؤدي هذه العملية السياسية إلى استعادة وحدة أراضي البلاد بالكامل وتشكيل قيادة موحدة بغض النظر على الآراء التي تعبر عنها هذه القوى السياسية أو تلك اليوم". أما النقطة الثالثة، وهي النقطة المحورية بالنسبة لتركيا، فهي منع الأكراد من الدخول في صفوف القوى التي ستدير سوريا، بل ومنع إنشاء كيان كردي على الحدود مع تركيا. ورذا كانت روسيا لم تدرج حزب العمال الكردستاني على قائمة التنظيمات الإرهابية، كما فعلت أوروبا والولاياتالمتحدة، فإن الأخيرة تحافظ على علاقات أكثر من جيدة مع بقية الفصائل والمجموعات الكردية. أي أن موسكووواشنطن واعيتان جيدا لأهمية الورقة الكردية، بصرف النظر عن إقامة كيان للأكراد من عدمه، لأن الأهم هو استخدام هذه الورقة في الصراعات الدائرة في المنطقة وتوجيهها كما ينبغي لخدمة سياستيهما. ومن الواضح، إلى الآن، أن لا موسكو ولا واشنطن مستعدتان للتخلي عن الورقة الكردية مقابل "ولاء" أنقرة. لقد تمكن بوتين من الإفلات "نسبيا" من الفخ الذي نصبته الولاياتالمتحدةلروسيا بوضعها في مواجهة أنقرة والمساواة بينهما في الصراع. أي التفاهم "الضمني" في المسألة الكردية، وفتح الطريق لتفاهمات في مذكرة أستانا حول "مناطق خفض التصعيد". ولم يتبق غير النقطة المتعلقة بمصير الأسد، والتي تمثل "ورقة التوت الروسية الأخيرة في سوريا". وفي الحقيقة، فقد سبق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن اعترف بأنه "يجذف كعبد على سفينة، لكنها سفينة روسية، وهو ليس مستعدا للتجذيف على سفينة العبيد التركية". وبالتالي، فلماذا يقدم بوتين تنازلات لتركيا، إذا كان بإمكانه تقديمها للولايات المتحدة مباشرة! ولماذا يقدم بوتين تنازلات لأردوغان، بينما الأخير لديه الكثير من المشاكل والصعوبات والتعقيدات الداخلية والخارجية التي يمكن أن تطيح به في أي لحظة! كل ما في الأمر أنه أدار عملية سياسية تتسم بالمناورة والمراوغة مع نظيره التركي من أجل مكاسب محددة، مارس كل منهما سياسة عض الأصابع فيها إلى أن وصلت إلى طريق شبه مسدود. وهنا بدأ يظهر الدور المحوري للولايات المتحدة التي تملك من الأوراق والإمكانيات أكثر بكثير من ما يتصوره البعض، وخاصة في الأزمة السورية. من الصعب أن يطرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على نظيره التركي رجب طيب أردوغان، خلال لقائهما القريب المرتقب، عروضا أفضل من العروض الروسية التكتيكية. لا مجال لتخلي واشنطن عن الأكراد، ولا مجال لخوض حرب مباشرة مع روسيا في سوريا، ولا مجال للحديث عن تورط أمريكي مباشر في الإطاحة بالأسد عبر عملية أمنية أو عسكرية. ولكن كل ذلك لا يمنع الولاياتالمتحدة من اعتماد سيناريوهات أخرى لتوريط روسيا أكثر في المستنقع السوري، والعمل على إزاحة الأسد عبر سيناريوهات أخرى تتلاءم مع مصالح واشنطن وفي الوقت الذي يناسبها. كل ما في الأمر، أن ترامب سيختبر إمكانية الحصول من أردوغان على أمور محددة من شأنها ضمان ولاء تركيا. وفي ضوء ذلك سيحدد أجندة لقائه مع بوتين في يونيو أو يوليو المقبلين. وعلى أردوغان أن يقبل أو يرفض، إذ أن القنوات قد فتحت مع روسيا في كافة الملفات، بما فيها مصير الأسد، مهما حاولت موسكو إنكار أو نفي ذلك. كل ما هنالك أن الأخيرة بحاجة إلى ضمانات محددة، سواء في الملف السوري، أو في ملفات أكثر خطورة، مثل أوكرانيا والبلطيق ونشر الدرع الصاروخية وتوسع الناتو، ورفع العقوبات. إن لقاء لافروف وتيلرسون في 10 مايو الحالي، يمثل تحولا مهما على صعيد الأزمة السورية، مهما كانت التصريحات الدبلوماسية التي ستظهر أثناء أو عقب اللقاء. وإذا كانت الولاياتالمتحدة قد أظهرات "العين الحمراء" في سوريا بداية من الأسبوع الأخير في مارس الماضي، فإنها الآن تحصد نتائج هذه الخطوة سياسيا. وفي الحقيقة، فالتحركات الأمريكية الأخيرة في سوريا، سواء اتفقنا أو اختلفنا معها، كانت وما زالت تمثل المراحل الأولية لإبعاد الأسد عن السلطة، وضمان عدم تكرار مأساة العراق وليبيا. وهو ما تتحدث عنه أيضا روسيا مع بعض التفاصيل الخاصة بعدم بخسها حقها أثناء تقسيم الكعكة السورية.